الشيعة بين صعود نفوذ «الحركة» وأفول نجم «الحراك»!

تكسير خيم
البحاثة وعلماء الاجتماع والتاريخ الذين يجيدون دراسة تاريخ الطوائف اللبنانية ومنها الطائفة الشيعية كثر وطبعا انا لست واحدا منهم. ولكن أرى من واجبي الخوض في جزء قد يكون يسيرا لتفسير ضعف انخراط الجمهور الشيعي في انتفاضة السابع عشر من تشرين 2019.

وما يدفعني للكتابة هو كثرة المتسائلين والممتعضين من هذا الواقع وشعورهم بالاحباط والمرارة. وما يصح على الشيعة يصح في جانب  منه على بقية الطوائف. واذا كان عدد وافر من  المفكرين قد عالج موضوع الصعود الشيعي تاريخيا بجوانبه المتعددة الا ان وظيفة هذا المقال هو تفسير اسباب قوة القيادة الشيعية الراهنة، ولعدم الركون إلى التفسيرات المبسطة التي تختصر الموضوع بالتخلف والتعصب المذهبي والمد الديني بعد انتصار الثورة الإيرانية.

اقرأ أيضاً: عندما يكاد العنف يصيب من الثورة مقتلاً!

هذه العوامل آنفة الذكر صحيحة بلا شك ولكنها لا تفسر فعليا واقعنا الراهن.قوة حركة امل لم تأت من العبث، فهي وإن كانت قد ورثت قوة وتأثير الإمام السيد موسى الصدر  ومكانته ضمن الطائفة واستفادت من وهج وتأثير الثورة الايرانية الا انها استغلت ذلك في ظروف لبنانية خاصة، تمثلت بدعم اهم قوتين إقليميتين على الساحة اللبنانيةلها، في بداية تشكيلها، الثورة الفلسطينية، والنظام السوري ،تدريبا وتسليحا واحتضانا ،في محاولة كل منهما لالحاقها به، قبل أن ينجح النظام السوري في استمالتها  ثم استخدامها في الصراع ضد الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية ،عندما تعارضت الأهداف و تصاعد الصراع بين لنظام السوري والقيادة المشتركة للحركة الوطنية والثورة الفلسطينية.

المناخ الحاضن للثورة الفلسطينية

في تلك الفترة سيطر جيش لبنان الجنوبي التابع لإسرائيل على الشريط الحدودي مدعوما من القوات الإسرائيلية ودخلت سوريا بإتفاق مع أميركا وبموافقة اسرائيل ووسط معارك عسكرية مع القوات المشتركة، وسيطرت على قسما هاما من لبنان وصولا حتى مثلث الزهراني حيث منعت إسرائيل اي تقدم إضافي.لقد انهزم مشروع التغيير  الوطني وبات معروفا للقاصي والداني اننا محاصرون من إسرائيل جنوبا ومن سوريا شمالا وشرقا. سيطر الاحباط على الناس وباتت الهزيمة اكثر رسوخا، وصار عليها أن تتحمل كلفة الاعتداءات الاسرائيلية وما اتفق على تسميته بالتجاوزات الفلسطينية (وهذا موضوع بحاجة إلى بحث أعمق). المناخ اللبناني الحاضن للثورة الفلسطينية تراجع كثيرا وباتت الناس اكثر تعبيرا عن معارضتها، لدرجة العداء عند البعض، للثورة الفلسطينية، وظهرت الحركة الوطنية كتابع للفلسطينين وبات التفكير في جدوى الوجود الفلسطيني المسلح مطروحا، وتعددت الاشتباكات المسلحة  بين الحركة الوطنية وحركة امل وبتنا من حيث لا ندري وكأننا خارج جمهورنا مع ازدياد شعبية  ونفوذ حركة امل وامكانياتها، وتعالت شعارات (العين الشيعية، لا تقاوم المخرز الاسرائيلي).

ثمار الصراع ضد الوجود الفلسطيني

صار الجنوبين اكثر تعبيرا عن رفضهم لتحمل الشيعة، تبعات الحرب مع إسرائيل لوحدهم. وعلى الرغم من دفع منظمة التحرير مبالغ طائلة  تعويضا عن الأضرار التي حصلت نتيجة لاعتداءات الإسرائيلية او حتى التي لم تتضرر اطلاقا، الا ان هذا المناخ لم يتغير. لقد قطفت  حركة امل ثمار صراعها ضد الوجود الفلسطيني ونحن دفعنا ثمن تحالفنا مع الشعب الفلسطيني.

إن مرحلة انفجار هذا العداء وتمدده  بان بأقصى تجلياته بعد اجتياح العام 1978، وترجم ميدانيا بالاغتيالات والحواجز والاشتباكات حيثما تواجد الطرفان. وبات انتشار قواتنا العسكرية يلبى حاجات الدفاع عن أمننا  وأماكن تواجدنا على حساب مواجهة إسرائيل، وبات الوصول إلى المواقع المواجهة لقوات العدو الاسرائيلي بحاجة لعدد من الاحتياطات  والاجتماعات والمعارك. جاء اجتياح العام 82 وسط هذا المناخ. مئات الرفاق وعشرات القادة خارج أماكنهم المفترضة للحفاظ على حياتهم وانحياز جماهيري أوسع نحو حركة امل وتكريسها في الوعي الشيعي كمدافع عنهم بينما نحن بتنا وكأننا عملاء للثورة الفلسطينية، في مواجهة الطائفة الشيعية. هذا المناخ بطبيعة الحال ليس شاملا فكثر هم الذين يعرفون الاحزاب وتضحياتها  ونظافة كف أعضائها ولكن ما ذكرته هو السمة العامة.

إن قوة ونفوذ الرئيس بري وحركة أمل لم تأت من العدم. استفاد من تركة السيد موسى الصدر، وكسب دعم السوريين والفلسطينين قبل أن يصبح (المدلل) عند السوريين ويقطف حصة الأسد من تقاسم الحصص

خلال الاجتياح وفترة الاحتلال الاسرائيلي قامت الاحزاب بأعمال قتالية جبارة بمواجهة العدو في الوقت الذي كانت فيه هذه الاحزاب ما تزال تتعرض للمضايقة والاعتقال والتنكيل، حتى إذا ما جاء تحرير لبنان بما فيه القسم الاكبر من جنوبه على يد هذه الاحزاب وخاصة الشيوعين منهم (حزبا ومنظمة) استمر مناخ ما قبل الاجتياح سائدا ومنع معظم الحزين من العودة إلى مدنهم وقراهم وعادت ممارسة الاغتيالات ضد قادتهم برعاية النظام السوري. ثم تجددت الحرب الأهلية بعد التحرير بين الجهتين التقليديتين وداخل كل جبهة ليقضي الحزب الاشتراكي (الدروز) وحركة أمل (الشيعة) على المرابطون (السنة) قبل أن يختلف ويتقاتل (الشيعة) (والدروز) على السيطرة على بيروت، ودخول القوات السورية إلى بيروت.

اليد السورية

في ظل وضع اليد السورية مجددا على لبنان وتوزيع الخيرات على الحلفاء حظيت حركة امل بحصة الأسد من المكاسب وعلى مختلف الصعد، وجاء اتفاق الطائف ثم اتفاق الدوحة ليكرس الوزن الشيعي المتصاعد وخاصة بعد دخول حزب الله في الصراع الداخلي من بواباته العريضة.هذه الهيمنة الشيعية ترجمت بتطويب حركة امل الطرف الاقوى ضمن التركيبة اللبنانية واحتكار الرئيس نبيه بري لجميع المراكز والمواقع والمفاصل الهامة في الدولة اللبنانية مع نتش مراكز أخرى للطوائف الأخرى حيثما أمكن وإدخال عشرات آلاف الموظفين والمدراء العامين ومسؤولي المصالح وتعيين كبار الضباط ومسؤولي الاجهزه، ومحاصصة بقية القوى على المكاسب والمغانم.

هذه المحاصصة وفي غياب أجهزة الرقابة المركزية مكنت قادة الطوائف  من توظيف اعداد كبيرة في وزارة الاعلام وبعضهم لا يعرف الكتابة وحرس المجلس النيابي وبعضهم لا يعرف موقع المجلس، وفي مختلف مواقع الدولة حيثما يوجد شواغر او تخمة بالموظفين لا فرق (وهذا ينطبق على بقية المحاصصين ولو بتفاوت). واذا كان هذا الواقع  يراه المثقفون  من زاوية هدر المال العام والفساد الذي يتشارك فيه الجميع الا ان الجمهور البسيط يعتقد ان  رئيسه القوى يستطيع أن يلبى حاجات عدد كبير منهم بالوظائف، والترقيات، والمحاكم (والتمريقات) وتجاوز القوانين حيث تدعو الحاجة. واذا أضفنا إلى هذه التقديمات  مئات المجالس البلدية وما يمكن أن تقدمه من وظائف وتلزيمات وتقديمات وخدمات إضافة الى مناجم المستشفيات والمقاولات والريجي والمصالح المستقلة الخ.

نظام المحاصصة

وفي ظل نظام  المحاصصة وخرق القوانين والتوظيف العشوائي تمكن زعماء الطوائف من تقديم خدمات هائلة إلى جمهورهم ولكن على حساب المالية العامة. في صراع زعماء الطوائف يحصد الزعماء المكاسب ويدفع الكادحون الثمن، هذا صحيح. ولكن الصحيح أيضا ان الزعيم المنتصر يحصد مكاسب اكثر و يوزع تقديمات اكبر على جمهوره والمنهزم  تتراجع مكاسبه وتتقلص تقديماته. وهنا يقع  التواطؤ بين المسؤول والاتباع. حيث يعتبر الجمهور، ان انتصار زعيمهم يعود بالخير عليهم. وفي لبنان خرج جميع الزعماء رابحين  بتفاوت على حساب المال العام وحان اليوم موعد تسديد ثمن هذا التواطؤ.

اقرأ أيضاً: هل وجّهت حركة أمل تحذيراً للثوار؟

خلاصة القول وقبل الانتقال إلى حزب الله في مقال لاحق، إن قوة ونفوذ الرئيس بري وحركة أمل لم تأت من العدم. استفاد من تركة السيد موسى الصدر، وكسب دعم السوريين والفلسطينين قبل أن يصبح (المدلل) عند السوريين ويقطف حصة الأسد من تقاسم الحصص. قاتل الاحزاب والثورة الفلسطينية وسط دعم شيعي شعبي، قاتل الاشتراكي والمرابطون مع ما يعنيه ذلك بالوعي الشعبي الشيعي، استعمل نفوذه لتعزيز مواقعه في السلطة وفي تقديم الخدمات طوال ثلاثة عقود. استغل سلطته ليحتكر جميع التوظيفات الخاصة، مع الاستيلاء على ما أمكن من حصص الآخرين. وما زال البعض يتفاجأ من ضعف المشاركة الشيعية في الانتفاضة ولا يرى سوى الجوانب المتعلقة بالفساد وافلاس الدولة!

السابق
بعد فحوصات «كورونا» للمحامين..PCR للقضاة العدليين في المحكمة العسكرية الثلاثاء!
التالي
هكذا تُنقذ «التيتانيك» من الغرق في بحر العوز!