فيروس “متحوّل” وتحوّلات إنسانية بلا حدود

في حدود ما بات يُعرف عن الفيروس فإن ضربه الشبكات الكبرى للصناعة والتجارة سينعكس سلباً على مجمل الاقتصاد العالمي. وفي حدود قليل من الظواهر، كفوضى التسوّق وعنفه، لا يُعرف بعد الى أي مدى سيغيّر "كورونا" حياة الانسان.

نظرة كل صباح الى خريطة الـ “بي بي سي” المحدّثة لانتشار الوباء حول العالم تبثّ القشعريرة في الأبدان. البارحة كان الرقم تحت الثلاثمئة ألف اصابة لكنه تجاوزها، وتحت العشرة آلاف وفاة وها هو يتجاوزها. منظمة الصحة العالمية تشكو من أن دولاً لا تصرّح عن الأعداد الصحيحة، هل يمكن القول إذاً إن الإصابات قاربت النصف مليون، وإن الوفيات هي ضعف المعلن. حتى الدول التي يأخذ مسؤولوها الجائحة الكورونية بجدية بادية تتداول دوائرها أرقاماً أعلى من تلك المصرّح عنها، فماذا عن أنظمة الدول التي تتمسّك بعقلية التكتّم “الأمني لئلا “توهن معنويات الأمة”؟

الأرجح أن لا ضير عندها في أن يحصد الموت أعداداً كبيرة من مواطنيها، وفي أن يساعدها الفيروس في قتلهم من دون تدخّل منها، وربما رأت في “كورونا” حليفاً مؤازراً غير متوقّع لـ “آلة القتل” المتعبة لديها.
كل الحكومات وجدت في عبارة الرئيس الفرنسي “اننا في حال حرب” صدى لتفكيرها ومحاولتها التصدّي لهذا “العدو” الذي يتسرّب الى عمق مجتمعاتها. هناك اسم لهذا العدو، وليس له وجه ولا جيوش ولا ترسانات أسلحة، لكنه موجود في كل مكان. قيل إن مصادفات عوامل الطبيعية هي التي تصنّع الفيروس، فكل الأوبئة القاتلة المعروفة جاءت أساساً من الاحتكاك بالحيوان وما يحمله من قذارات لا يدري بها. لذا يقال أيضاً إنه عالم الحيوان يهاجم عالم الانسان، كما لو أن ثأراً قديماً لديه، كما لو أن ثمّة عداوة مستحكمة ومعارك يُهزم فيها الحيوان بعد أن يقتل ملايين أو آلافاً فينكفئ لزمنٍ ثم يعود أكثر خبثاً وحيلةً وأسرع فتكاً قبل أن يجد الانسان الدواء اللازم للقضاء عليه أو للعيش معه في مكافحة مستدامة له.

وكل الحكومات ارتعدت خيفة من عبارة رئيس الوزراء البريطاني ان “عائلات كثيرة ستفقد أحباء لها”، بالأحرى سخط عليه جميع مواطنيه خصوصاً أنه قال قولته ولم يكن قد اتخذ بعد أي إجراءات وقاية، بل تولّى أعوانه شرح أن النظام الصحّي مرشح للانهيار حين يبلغ الوباء ذروته، وعندئذ يمكن توقّع الأسوأ والأصعب إذ يستحيل “انقاذ الجميع”. ارتاب كثيرون بتأثر تصريحات بوريس جونسون ومصطلح “مناعة القطيع” الذي ابتكره خبراؤه بنظريات بحّاثة السكان والاقتصاد (توماس مالتوس، كمثال) الذين روّجوا، ولو من دون إفصاح، مفهوماً قوامه أن للحروب والكوارث وظيفة غير معلنة لتصحيح التوازن في “وليمة الطبيعة” بين عدد السكان وحجم الموارد وكميات الإنتاج. وفي الخطاب الراهن لعتاة الشعبويين عن الهجرة واللاجئين ما يمكن أن ينعكس على عقلية التعامل مع الوباء والمصابين أو المرشحين للغياب.

الدول الـ 25 التي سجّلت رسميّاً الأرقام الأعلى للإصابات، مراوحةً مما فوق 80 ألفاً في الصين وما دون الألف، هل هي الدول الأكثر تعولماً ما دامت العولمة تصنّف الآن بكونها أحد أسباب انتقال الفيروس وقد تصبح مستقبلاً ضحيته. رُبطت العولمة هنا تحديداً بتوسّع التجارة العالمية، واستطراداً بكثافة التعامل مع الانفتاح الصيني واستقباله أقساماً هائلة من الصناعات الغربية. فعلى رغم تأكيد بكين وقف تفشّي الوباء إلا أن الشركات الكبرى ترغب في تقليص الاعتماد على فروعها الصينية ونقلها الى بلدان آسيوية أخرى، ما يعني بالنسبة الى “فايننشال تايمز” اضطراباً في السلسلة العالمية للإنتاج والتصدير أو كسراً للعولمة، وما يحقق أحد أهداف دونالد ترامب والسياسيين الذين يتمثّلون أفكاره. من شأن ذلك أن يترجَم بإقفال مصانع وبجيوشٍ من العاطلين عن العمل، وشيئاً فشيئاً بانعكاسات سلبية على الاقتصادات في كل جوانبها، خصوصاً تلك الوسيطة والخدمية، فالعولمة جعلتها مترابطة الى حد يصعب تصوّره والاستقطابات الصينية ستجعل انقطاع سلعة هنا أو قطعة غيار هناك مؤثراً في دورات انتاج كثيرة.

مع استمرار جائحة “كورونا”، والتعميم القسري لقاعدة “خليك بالبيت”، هل يمكن تخيّل استمرار الخدمات كافةً على حالها الراهنة. صحيح أن الحكومات حدّدت استثناءات من العزل المنزلي للعاملين في القطاعات التي تحافظ على دورة الحياة (غذاء، دواء، وقود، كهرباء…) إلا أن ملامح صعوبات ومخاطر بدأت تلوح في الأفق، خصوصاً أن سياسات “حظر التجوّل” تتعمّم سريعاً وكلّما تطلّبت الظروف اطالتها كلّما ازدادت التهديدات للمواد الأساسية وللخدمات التي ما عاد بالإمكان العيش بدونها، وقد بدأت شركات الاتصالات ترسل إشارات قلق من احتمال انقطاع مفاجئ في خدماتها، ذاك أن العاملين فيها ملزمون كسواهم بالحجر الذاتي للوقاية من الوباء. وفي الأيام الأخيرة اضطرّت جهات حكومية عديدة لـ “توبيخ” المتسوّقين على سلوكهم المتهوّر في تفريغ المخازن من موجوداتها، ما فرض سباقات لا يقوى عليها كبار السنّ أو محدودو الدخل. وفيما توحي الإعلانات الحكومية بأن الاعتزال المنزلي قد يمتد لأسابيع عديدة طرح هذا الشغب المقنّع تساؤلات عما ستكون عليه الحال إذا تباطأت عمليات التموين تدريجاً.

مجرّد التفكير في صعوبة الحصول على المتطلبات الضرورية يستدعي تجارب الحروب والتقنين. بالكاد اقتنع الناس لكنهم راحوا يحاولون استنباط أفكار لتمضية هذا الحجر الطوعي بأكبر قدر من الإيجابية. لكن تعطيل حياة البشرية يثير الوساوس والمخاوف مما يعنيه عملياً فالشعوب لم تتهيّأ ذهنياً ولا نفسياً لأوضاع قد تعود فيها الحياة الى عصور غابرة. لذلك تتوزع الأبصار بين عدّاد الإصابات والوفيات وبين أخبار البحث عن لقاحات. فالصين قدمت نموذجاً ناجحاً في مكافحة الفيروس لكنه سيبقى تحت الاختبار، أما تجربة إيطاليا وإلى حدٍّ ما اسبانيا وفرنسا فلن تظهر نتائجها قبل نهاية أيار (مايو)، عدا أن الوضع في المانيا وبريطانيا قد تتفاقم. في هذه المواجهة مع الفيروس لا مفر من دليل واضح الى القضاء عليه، أما التقدّم في الاختبارات السريرية فيشكّل بصيص أمل ولا يكفي لإعلان تخطّي مرحلة الخطر. متى يحدث ذلك؟ لا الأطباء يعلمون ولا الحكومات ولا أي منا. حالٌ غير مسبوقة: فيروس متحوّل مستجد قد يفرض على الانسان تحوّلات لم يكن يتصوّرها حتى أسابيع قليلة.

السابق
خطاب نصرالله.. بين وجهين.. المقاوم والمساوم
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الإثنين في 23 آذار 2020