الوطنية والفخر في شعر بولس سلامة ونثره

بولس سلامة

سيرته

هو بولس يوسف سلامة ولد في بتدين اللقش عام 1902 وهي قرية على مقربة من جزين في محافظة لبنان الجنوبي وفيها تلقى دراسته الأولى ثم انتقل إلى مدرسة الفرير المريميين في صيدا حيث قضى سنة واحدة حال نشوب الحرب العالمية الأولى دون متابعتها، عاد بعدها إلى قريته، وعند انتهاء الحرب دخل مدرسة الحكمة سنة واحدة ثم انتقل منها إلى الفرير جونية ثم عاد إلى مدرستهم في صيدا، انتسب إلى معهد الحقوق في بيروت ونال الإجازة وعلَّم سنة واحدة في مدرسة الحكمة بعد تخرجه وتدرج في المحاماة ثم عيّن قاضياً ومارس القضاء 15 سنة كان فيها مثال النزاهة والاستقامة.

كتب الله له أن يكون أيوب القرن العشرين فظل طريح الفراس أربعين سنة أجريت له خلالها 23 عملية جراحية تحمّل آلامها بصبر جميل وإيمان عظيم واظب خلالها على التأليف والكتابة وذلك حتى وافته المنية عام 1979.

ترك عدة مؤلفات منها: علي والحسين، مذكرات جريح، حكاية عمر. ومن مؤلفاته الشعرية: فلسطين وأخواتها، ملحمة الغدير، ملحمة الرياض، عيد الستين وغيرها.

اقرأ أيضاً: النبطية في حقبة الأربعينات والخمسينات تجاذبات فكرية ودينية أَثْرَتِ الجنوب ومحيطه

شاعراً وأديباً

قلّما عرف الأدب العربي واللبناني شاعراً وأديباً كبيراً ووطنياً صميماً وقاضياً نزيهاً مثل بولس سلامة. الذي امتاز من غيره بإبداعه شعراً ونثراً، وأثاره النفيسة تدل على ذلك، فقصائده الملحمية أخذت جدلاً حاداً بين مؤيد ومعارض لهذا النهج الجديد الذي طرأ على الأدب العربي الذي رأى فيه البعض فناً دخيلاً على اللغة العربية، إلا أن آخرين وعلى رأسهم سعيد عقل رأى أنه (الفن) لم يتوفر إلا لنفر قليل من الأوروبيين العظام، كما أن مؤلفاته الأدبية النثرية كانت مدار توافق بين جميع الدارسين على أنها علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، كيف لا وهي التي اتسمت بسهولة التعبير والجزالة والمتانة، وبسحر بيان يذكر بمن سلف من أساطين اللغة ورواد الفصاحة والبلاغة في العصر الحديث أمثال المنفلوطي والعقاد وغيرهم، ما شكَّل أدبه إضافة رائعة للمكتبة العربية كان لها تأثير بالغ في اكثر من جيل متعاقب.

امتاز سلامة من غيره بإبداعه شعراً ونثراً

السمة البارزة

ولعل السمة البارزة التي امتاز بها أدب بولس سلامة هي الروح الوطنية الصادقة المفعمة بالفخر والاعتزاز لانتمائه لعائلة لبنانية جنوبية مسيحية عربية، وأن الدارس ليجد أن الفخر يبدأ عند الأديب الشاعر مع أبيه الذي يقول عنه أنه “كان رجلاً طويلاً عملاقاً شمشوني العضل عريض الألواح مهيب الطلعة، قوته البدنية قوة أسد بل أكثر حتى ليندر مثله بين الألوف”، إلى الحديث عن نفسه “وهو أهل لهذا الفخار، عندما دخل مدرسة القرية وهو ابن خمس سنوات. وقد امتاز بقوة الذاكرة واستطاع قراءة سيرة عنترة والزير على مسمع أهل القرية وبصوت عال وهو ابن عشر سنوات، وكون بولس سلامة ابن القرية الجنوبية “بتدين اللقش” قثضاء جزين فقد فخر بأبناء الريف الطيِّبين المفطورين على الشهامة الراسخة في نفوسهم ، واعتبر أن شظف العيش هو الطريق إلى الفوز نابداً الحياة المدنية السَّهلة التي تنجب المخنّثين المارقين.

شظف العيش والبلاء الذي تلقى

سبيل إلى العلى ومِران

وفي قصيدة أخرى يقول: لا يشبُّ الذئبال في روضة

عيناء حيث التفاح والريحان

تتشظى على القتاد لبود الأسد

حيث الأدغال والغيران

فالحرمان وضنك العيش هو السبيل إلى البطولة والمجد في رأي بولس سلامة وها هو يخاطب حفيده في مؤلّفه حكاية عمر قائلاً: “من ذلك الريف الجيلي وغابه وأجوائه، وسِير البطولات ونماذج البداوة انطلق جدك إلى الأدب الملحمي…”.

ولا نكتمل البطولة عنده إلا بتعويد الأحاسيس على بذل كل ما لديها:

عودٌ الطرف أن يحدّق للهيجا

فلا خفّة ولا زيغان

عود الأذن أن تحس دبيب النمل

في الليل فالدجى آذان

عود الصدر أن يكون حديداً

ربما استهدف الجبال السنان

من هنا انطلقت عنده المشاعر الوطنية الصادقة فجاءت كتبه زاخرة بالإبداعات الشعرية والنثرية كلها تتحدث عن البطولة التي يجب أن تواجه الباطل والغازي المحتل.

حمم تطاير من يراعي كلما

دق الدخيل على رتاج الباب

ضربات بتاّرٍ وطعن أسنّة

وخفوق أعلام ولمع حراب

ولعل أبرع ما كتب في الفخر والحماسة قصيدته “فلسطين وأخواتها” وهي قصيدة شعبية تربو على ثلاثماية بيت يستنهض بها همّة العرب للنضال والدفاع عن حياض فلسطين:

فمن يدُسْ أرضها يبغ مناسكها

تفجَّرت حوله الدنيا براكينا

يا وعد بلفور يا عار الدهور

ويا وقاحة الضيف قد باع المضيفينا.

ثم يتابع وكأنه كان يتنبأ بما سيكون من عدوان على لبنان وما تلاه من مقاومة شعبية العام 1982، أي بعد وفاة أديبنا بثلاث سنوات، هذه المقاومة التي أجبرت المحتل الإسرائيلي على الخروج خائباً مهزوماً بعد أن سطر الشعب اللبناني ملاحم بطولة هي صدى لشعره وأدبه ولغيره ممن كانوا يشحذون الهمم ويعدون العدة، لمثل هذا اليوم المشهود يقول:

يا طامعين بلبنان وجنّته

سيدفع الله عن لبنان قايينا

وقفة على ولدنا هذي الصرود فإن

وافى الدخيل تردّى في مهاوينا

وقد رافق القضية الفلسطينية ونفحها من أدبه الملحمي البطولي فأثراها في ملحمة عيد الرياض وذلك بقوله:

ما لصهيون في فلسطين حق

دنس المنزلون والنزلاء

شراء الذئاب كيف غويتهم

فنصرتم صهيون وهي الوباء

وغني عن التعريف أن شركاء الذئاب هم الانتداب البريطاني على فلسطين في ذلك الوقت.

وفي قصيدة أخرى نختار هذا البيت يناشد به الأمة العربية أن تتحرك لا أن ترثي حالها:

أمة العرب والنداء ابتهال

ليس يغني عن القتل الرثاء

كانت ذاكرته تزدحم بصور الأبطال التي أثَّرت به حتى ليكاد يسمع صليل سيوفها وصهيل خيولها على حد قوله

مزاعم اليهود

هذا شعراً أما نثراً فقد دافع عن الحق العربي بمنطق الحق ضد الباطل والموقف الصادق ضد الأكاذيب والأضاليل فيقول في أحد مؤلفاته يدحض بها مزاعم اليهود بأن فلسطين هي أرض ميعادهم التي وُعدوا بها منذ ثلاثة آلاف سنة بقوله: “إذا كان القِدم يوليهم ذلك الحق المزعوم فنحن أحفاد الفينيقيين والكنعانيين وحفدة الفلسطينيين أولى بفلسطين منهم”.

اقرأ أيضاً: ثورة النبطية في صُوَر..وفوعاني لـ«جنوبية»: نحو جبهة وطنية ضد السلطة!

نهج البلاغة

هذا ولا بد أن نذكر أخيراً أن لاطلاعه على نهج البلاغة وسيرة الإمام علي بن أبي طالب كان له العامل الحاسم في انحيازه للملاحم البطولية. فبعد أن كانت ذاكرته تزدحم بصور الأبطال التي أثَّرت به حتى ليكاد يسمع صليل سيوفها وصهيل خيولها على حد قوله، فإذا كل سيوف أبطاله القدامى من عنترة إلى دريد بن الصمة إلى معدي كرب كانت على ذي الفقار عيالاً كما صرَّح، ولما طلعت شمس نهج البلاغة توارت الزهرة والشعرى وبنات نعش فكان لدوي صوت الإمام علي بن أبي طالب المفعم بقوة الحق والمنطق الأثر الأقوى في وجدان الشاعر أوحى له بأول ملحمة في تاريخ الأدب العربي وهي ملحمة الغدير التي أصدرها في بيروت سنة 1949 وهي تربو على 3500 بيت من الشعر أتبعها بملحمة الرياض عام 1955 يتغنى بها بتاريخ وبطولات آل سعود بلغت نحو 9000 بيت من الشعر وربما أراد بولس سلامة في الملحمة الأخيرة أن يخلد بصناعة هذا العدد الكبير من الأبيات وأن يخلّد الممدوحين بعمل لم يأتي به أحد من قبل. وعلى كل فإن ما أوتي لبولس سلامة من مجد القلم لم يؤت إلا لقليل غيره، ولدرر نثره التي تحاكي شعره رقة وحلاوة وطلاوة جعلته من عظماء أدبائنا الخالدين المبدعين.

(مجلة شؤون جنوبية العدد (0) كانون الثاني 2002، ص28)

السابق
سيناريوهات ثلاثة تحكم الصراع الروسي التركي في سوريا
التالي
خلية الأزمة تُحاصر «كورونا».. منع السفر الى الصين وإيران وكوريا الجنوبية!