نشر الدكتور أحمد بيضون على صفحته نصا حول “الفضاءات” الشعبية وإخضاعها للتحليل البلاغي وجاء فيه:
أيّامَ كُنّا صغاراً في قُرانا، تَعَلّمنا أن نلجَأ إلى المَجازِ، على سبيلِ الحِشْمةِ، لِنُعْلِنَ الرغْبةَ في دُخولِ بيتِ الخَلاء. فإذا كانت الزيارةُ قصيرةً قلنا: “بَدّي طَيِّرْ مَيّ!”، وإذا كانت طويلةً قُلْنا: “بَدّي طَيِّر فَضا!”…
وكانت العِبارةُ الأولى قريبةً إلى الإدراك، خُصوصاً وأنَّ الحَنَفِيّةَ كانت، في تلكَ الأيّامِ، شبيهةً بحمامةِ الولَد: لا يخْرُجُ منها الماءُ في أيِّ وقتٍ يُرادُ فِيهِ خروجُهُ بل حينَ يَكُونُ متوفّراً في الخَزّانِ فقط.
وأمّا عِبارةُ “تَطْيير الفَضا” فبَدَت الكنايةُ فيها عسيرةً على مَدارِكِنا وبَقِيَتْ لُغْزاً حتّى بَعْدَ أن أصْبَحْنا متمكّنينَ من إخضاعِها للتحْليلِ البَلاغيّ.
ولَعَلَّ الصُعوبةَ كانت فينا أكثرَ مِمّا كانت في العبارة. فقد كان للفضاءِ جلالٌ في نفوسِنا يَحولُ دُونَ حشرهِ في ذاكَ الموضِعِ الضيّقِ واتّخاذِهِ كنايةً عن تلكَ الحاجةِ الكريهة.
إقرأ أيضاً: يصنع الخير في الخفاء.. مغترب شمالي يُسدّد ديون أهالي بلدته ويسافر!
ولم تَلْبث الأيّامُ أن زادت نفورَنا من العبارةِ المُشارِ إليها شِدّةً. فقد أخَذَ الفضاءُ يزدادُ اتّساعاً في مُخيّلتِنا وراحَ حضورُهُ فيها يزدادُ جلالاً وبُعْداً عن ذاكَ الموضِعِ الضيّق مع إطلاق الكلبةِ السوفياتيّةِ “لايكا” إليه ثمّ مع إعلانِ ضياعِها وما رُوِيَ عن خُروجِ شُيوعِيّي النبطيّةِ في تظاهُرةِ رِثاءٍ، يَقْرَعون صدورَهم صائحين: “يا لايكا يا حزيني / وَيْن رُحْتي يا مَسْكيني؟”.
وغَنِيٌّ عن القَوْلِ أنّ الأيّامَ راحت تزيدُ قَهْرَنا، مَرْكَبةً بَعْدَ مَرْكَبةٍ، من بُعْدِ الشبَهِ بينَ “تطييرِ فَضائنا” وما راحَ أصحابُ الحَضارةِ الجديدةِ يُطَيِّرونَهُ إلى فضائهم في تلك البلادِ البعيدة. وقد بَلَغَ من تأثيرِ حَضارتِهِم فينا أنّنا رحنا نهملُ العبارةَ التي دَرَجْنا على اسْتِعمالها ونرتَجِلُ، عِوَضاً عَنْها، بدائلَ غيرَ فضائيّةٍ تَحْفَظُ الحِشْمةَ وتَفي بالحاجة…
كُنّا قد تَعَلَّمنا أيضاً أنّ صِراعَ الحَضاراتِ مَجْلَبةٌ للإمساك!…