بعد التشييع الإيراني المهيب لسليماني الذي أرادته السلطة في إيران مناسبة لإظهار مدى إلتفاف الشعب حولها بعد الأحداث الأخيرة التي جرت إحتجاجا على رفع سعر البنزين ، وبعد الرد الإيراني ” المحسوب ” والأولي كما تشيع هي والموالين لها في المنطقة بقصف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق ، برزت قضية الطائرة الأوكرانية المنكوبة التي أسقطها الحرس الثوري الإيراني بصاروخ أو صاروخين كما قيل ، حيث إعترفت إيران بمسؤوليتها عن الحادث بعد نكران ونفي لعدة أيام ما أطلق موجة إحتجاجات شعبية أخرى في الجامعات والشوارع الإيرانية تخللها تمزيق صور لسليماني وخامنئي ودعوات لمحاسبة المسؤولين عن الكذب في قضية الطائرة المنكوبة صعودا إلى المطالبة برحيل النظام.
إقرأ أيضاً: أميركا ترد بالعقوبات على تهديدات خامنئي.. ستواجهون عزلة أكبر!
ولعل الأهم والأخطر ما صدر ربما للمرة الأولى عن المعارضة الإيرانية في الداخل الممثلة بمهدي كروبي وكذلك ما صدر عن فائزة رفسنجاني إبنة الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني من إتهامات للمرشد بالقصور والفشل والعجز عن ممارسة مسؤولياته ، ما ضاعف الحرج والضغوط المعنوية أقله على النظام بمسألة الطائرة المنكوبة التي أظهرت النظام والحرس الثوري بمظهر المرتبك والعاجز عن التمييز بين الصواريخ المعادية وبين طائرة مدنية وهي صورة خلاف ما تحاول إيران إظهارها دائما عن الحرس الثوري الذي يمثل عماد قوتها العسكرية .
في ظل هذه الأجواء والضغوطات ، ورغم ” رسائل الود ” المتبادلة بين أميركا وإيران التي تشدد على عدم الرغبة بالتصعيد ، إستمرت بالمقابل الرسائل السياسية هذه المرة عن طريق أطراف مرتبطة بإيران كحزب الله اللبناني وبعض أطراف الحشد الشعبي العراقي التي شددت على أن الضربة الإيرانية غير كافية وما هي سوى ” صفعة ” كما وصفها الخامنئي وكررها بعده حسن نصرالله ، وبأن هذا الرد الإيراني لا يعفيهم من حق الرد على طريقتهم ضمن الإستراتيجية العامة والهدف النهائي الذي وضعته القيادة الإيرانية وهو إخلاء المنطقة من الوجود العسكري الأمريكي.
داخلياً
هذا على المستوى الخارجي ، أما في الداخل الإيراني فقد تخلت إيران عن آخر ” القيود ” المفروضة عليها بموجب الإتفاق النووي وعادت لتخصيب اليورانيوم كما كانت قبل هذا الإتفاق الأمر الذي أثار حفيظة الدول الأوروبية التي لوحت باللجوء إلى آلية حل النزاع بموجب الإتفاق النووي وإلى رفع القضية إلى مجلس الأمن الدولي .
من ناحية أخرى بدا وكأن إدارة ترامب تلعب مع النظام لعبة العصا والجزرة ، فمن ناحية تغري هذه الإدارة إيران بالمفاوضات وما يمكن أن تكسبه إيران منها عبر تغريدات ترامب وتلويحه بأن إيران يمكنها أن تكسب المفاوضات ولكن لا يمكنها كسب الحرب ، ومن ناحية أخرى تتخذ خطوات إضافية لتشديد العقوبات وتلوح بالعصا الغليظة في حال تم الإعتداء على مصالحها وجنودها في المنطقة ، وبإعلانها رفض القرار العراقي بالإنسحاب من أراضيه بحجة أن القرار أتخذ بغياب مكونات عراقية أخرى في البرلمان كغالبية السنة والأكراد ، ووصل الأمر بترامب للقول بأن ليس هذا ما تطالب به الحكومة العراقية في الإتصالات معها ولم يصدر نفي لهذا الكلام من جانب المسؤولين العراقيين.
هذه التطورات المتسارعة والمتصاعدة قد تكون هي أحد مسببات ظهور المرشد الإيراني علي خامنئي لإمامة وإلقاء خطبة الجمعة الماضية في طهران ، في خطوة لافتة وإشارة مهمة وهي خطوة لم يتخذها أو يقم بها منذ العام 2012 على الأقل فما هي دلالات هذه الخطوة وما مدى تأثيرها على سير هذه التطورات؟
الواقع يمكن القول أن هذه الخطوة تأتي في نفس سياق إطلاق الرسائل السياسية للداخل والخارج ولكن هذه المرة بالتأكيد عليها بلسان المرشد نفسه بصفته أعلى سلطة في البلاد ، بالنسبة للداخل قد يكون المطلوب إرسال رسالة للموالين أولاً لرفع المعنويات بعد الرد الغير مقنع لكثيرين على إغتيال سليماني وبعد الإحباط الذي لاشك قد شعر به كثيرون بعد فاجعة الطائرة الأوكرانية ، بالقول وبلسان المرشد نفسه بما يحمله من هيبة وسلطة وبما يمثل من مرجعية دينية وسياسية كبيرة بأنه ما زال على مواقفه وتعهداته بأن ضرب قاعدة عين الأسد ما هو إلا بداية الثأر وأن الثمن النهائي سيكون خروج القوات الأميركية من المنطقة ، وثانيا رسالة للمعارضة السياسية وللمحتجين بأنه لا يزال الآمر الناهي وبأنه لا يزال ينظر إليهم على أنهم شرذمة بسيطة مدعومة من الأعداء ولا تمثل الشعب الإيراني ما يعني أنه سيتعامل معهم النظام بنفس طريقة تعامله السابقة وهو ما أكدته الوقائع مع توقيف السفير البريطاني لمدة وجيزة مع ما يحمله هذا من رسالة للداخل والخارج.
خارجياً
بالنسبة للخارج كان هناك عدة رسائل ، الأولى لأميركا وهي مجرد تكرار للتحدي والتهديدات بالرد والثأر ، الثانية لأوروبا وهي رسالة تقريع لمواقفها المنحازة لا بل المنقادة لأميركا خاصة بعد موقفها الأخير بالنسبة للإتفاق النووي الذي يعتبر أن به تراجعا ويأتي هذا الموقف بعد يوم واحد من تحذير روحاني لأوروبا بأن جنودها قد يكونوا معرضين كالأمريكيين للخطر جراء تصاعد الأوضاع في المنطقة .
أما الرسالة الأهم بنظري من ناحية الشكل والمضمون فقد كانت تلك الموجهة لمن أسماهم خامنئي ب ” الأخوة العرب” في المنطقة وبلغتهم العربية التي تلا بها خطبة الجمعة ، يدعوهم فيها إلى الحوار والتفاهم لإرساء الأمن والإستقرار في المنطقة بعيدا عن الإملاءات الأمريكية التي لا تريد الخير للمنطقة والتعاون من أجل إبعاد قواتها عنها ، وذلك في سابقة من نوعها ولكن بكلام عمومي لا يحمل في طياته أي مبادرة عملية مطلوبة على الأقل لإعادة الثقة وكسر الجليد بعد سنين من التهديدات والتدخلات والإتهامات بالعمالة لواشنطن ما أفقد هذا الكلام جديته ووضعه فقط في سياق المواجهة مع أميركا أكثر منه دعوة جدية للحوار والتعاون ، بحيث بدا وكأنه يتوجه بقوله ” الأخوة العرب” إلى الشعوب أكثر منه إلى الأنظمة ، من هنا يمكن تفسير حديثه بالعربية خاصة وأنه جدد إتهامه للحراك الشعبي العربي بأنه صنيعة أميركا عندما أشار بأن أميركا تريد تنصيب حكومات تابعة لها في المنطقة وحدد كل من لبنان وسوريا والعراق متجاهلا بذلك حراك الشارع العراقي المستمر منذ ثلاثة أشهر والموجه ضد إيران ورجالها بالدرجة الأولى .
وهكذا يبدو بأن ظهور خامنئي في الصورة قد لا يكون أكثر من محاولة لتثبيت المواقف وتأكيدها في محاولة لإعادة الثقة بالنظام في الداخل ولطمأنة الموالين له في الخارج بعد غياب سليماني وقد يفسَّره البعض بأنه مؤشر ضعف للسلطة عندما يضطر المرشد بنفسه لتصدر المشهد السياسي وإيصال الرسائل بدلا عن الحكومة القائمة ، فالرجل لم يأت بجديد سوى الكلام القاسي والمهين بحق أميركا وحلفائها من الأوروبيين الأمر الذي دفع بترامب إلى الرد عبر تغريدة له محذرا خامنئي وطالبا إليه أن يزن كلامه قبل إطلاقه ، وهكذا تكون المعركة قد إنقلبت إلى معركة كلامية حامية وحرب سياسية وميدانية باردة يبدو أنها مريحة للطرفين بإنتظار إعادة ترتيب أوراقهما ، إيران بعد مقتل سليماني والفراغ الذي خلفه ، وترامب بإنتظار إنتهاء معركة عزله في مجلس الشيوخ ومن بعدها معركته الأم معركة الإنتخابات الرئاسية ، وبالإنتظار تبقى المنطقة العربية تعيش على وقع هذا الصراع وتتلقى مفاعيله السلبية بإعتبارها أرض الصراع وملعبه عاجزة وفاقدة القدرة على المبادرة لإتخاذ قراراتها بنفسها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إستقرار وإقتصاد وحاضر ومستقبل شعوبها .