إحباط المشروع الكردي مصلحة مشتركة لتركيا وإيران والأسد

تبدو العملية التركية في شمال سورية كأنها تحقق مصالح لأكثر من طرف، بدءاً بدونالد ترامب وفلاديمير بوتين مع اختلاف اهدافهما، وامتداداً الى نظامَي الاسد والملالي بإحباطها مشروع الكيان الكردي. الأكراد خاسرون، لكن شعب سورية هو الخاسر الأكبر.

لم تقل واشنطن ولا موسكو أنهما موافقتان على العملية التركية في شمال شرقي سورية، لكنها انطلقت بالتفاهم معهما، كلّ لأسبابها المعروفة ونياتها المكتومة. روسيا-بوتين تحرز تقدّماً في اجتذاب تركيا بعيداً عن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي، وأميركا-ترامب لا تريد خسارة تركيا لكنها امتنعت وتمتنع عن توفير الضمانات الكافية لمتطلباتها الأمنية إزاء الخطر الكردي على وحدة أراضيها.
لا تلقي بداية عملية “نبع السلام” أي ضوء يبدّد الغموض بالنسبة الى مؤدّاها ونهايتها. فالطموح التركي لا يكفي وحده، والتفويض الأميركي/ الروسي محفوف بالقيود والممنوعات والمصالح المتضاربة. وبالتالي فإن “منطقة آمنة” بعرض 30 الى 40 كيلومتراً على طول 460 كيلومتراً، من تل أبيض الى المالكية (على الحدود العراقية)، لا تبدو عملية أو واقعية، وإذا لم تتمكّن أنقرة من قطع خطوط التواصل بين الأكراد في سورية والعراق فإنها ستخسر عنصراً أساسياً في استراتيجيتها.

اقرأ أيضاً: بومبيو: «لم نعطِ الضوء الأخضر لتركيا ونرفض مخاوف ظهور داعش»

لكن ماذا عن الانسحاب الأميركي الكامل من شمال شرقي سورية؟ كان ترامب واضحاً هذه المرّة، كذلك البنتاغون (خلافاً لموقفه في ك1/ ديسمبر الماضي)، وبدا أن الأمر غير قابل للنقاش. سيكون هناك انسحاب، وهذا ما أُبلغت به قيادة “قوات سورية الديموقراطية”. أما متى وكيف وبأي ترتيبات فهذا ما يسعى الروس والايرانيون الى معرفته، وهم يتعايشون ايجابياً مع العملية التركية فقط لأنها حرّضت ترامب على حسم موقفه. ربما تتضح الصورة بعد زيارة رجب طيب اردوغان لواشنطن منتصف الشهر المقبل. ربما يتضح معها مدى التخلّي الأميركي عن أي دور في سورية، ذاك أن إخلاء الاميركيين لقواعدهم وعدم وجودهم على الأرض وغياب تحكّمهم بالأجواء تُحدث فراغاً وتشكّل خروجاً كاملاً من الأزمة السورية برمتّها.
لن يكون ذلك مجرد “هدية” من ترامب الى بوتين، كما يقول المعارضون الجمهوريون لقرار رئيسهم، بل هدية أيضاً الى ايران، ولنظام بشار الأسد. قيل كل ذلك في ديسمبر الماضي، وأمكن ثني ترامب عن تنفيذ قرار أكّده آنذاك بعد مكالمة هاتفية مع اردوغان، لكن من الواضح أنه لم يأخذ باعتراضات صديقه السيناتور ليندسي غراهام وغيره بل اكتفى بتأجيل خطوة كانت أحد وعوده الانتخابية، ثم أن كل الشروح التي قدّمت له لم تقنعه بمواصلة إنفاق مليارات الدولارات طالما أن الحرب على “داعش” انتهت، ولا بمواصلة دعم الأكراد في مشروعهم الخاص الذي لا يشكّل مصلحة لأميركا بل يفسد علاقاتها مع تركيا، وكذلك مع روسيا. وبما أن سورية لا تنطوي على فرص استثمارية، كما أن هناك توجّهاً استراتيجياً تبلور قبل وصوله الى الرئاسة ويقضي بمغادرة اميركا الشرق الأوسط وحروبه “السخيفة” و”غير القابلة للانتهاء”، فإن ترامب ازداد اقتناعاً بأنه على صواب.

ولعل الذين حذّروا في واشنطن من أن انسحاباً اميركياً سيحقق هدفاً استراتيجياً لإيران ساهموا من دون قصد في شحذ تصميم ترامب على قراره. فلا مانع لديه من حصول طهران على هذا المكسب، إذ يمكنه أن يضع ذلك في سياق الاتصالات السرّية مع الإيرانيين. كثيرون رأوا في تغريدة المرشد الإيراني علي خامنئي، متزامنةً مع بدء العملية التركية، باعتبارها دالّةً الى تقدّم تلك الاتصالات. إذ غرّد المرشد بالآتي: “قررنا بحزم وشجاعة عدم المبادرة الى تصنيع السلاح النووي وامتلاكه رغم استطاعتنا ذلك”… ربما كان المرشد يشير الى “فتوى” سابقة بهذا المعنى، لكن يُرجّح أنه استعادها الآن لمخاطبة الاميركيين في سياق مبهم، خصوصاً أن أي جدل جديد على أهداف البرنامج النووي لم يبرز أخيراً في الجانب العلني من الأزمة مع الولايات المتحدة.

في أي حال، سيحتّم الانسحاب الأميركي على تركيا أن تنسّق مع روسيا، ولعلهما استبقتا ذلك بتفاهمات أولية. فالمؤكّد أن الجانبين لن يتصادما، لكن كل الاتصالات السابقة بينهما أظهرت أن الاعتراضات الروسية على “المنطقة الآمنة” ليست بعيدة عن تلك الأميركية، أي أن لا يتعدّى عرضها خمسة كيلومترات كشريط أمني عازل. وفي غياب الاميركيين سيسعى الروس الى ما اقترحوه مراراً، وهو من جهة العودة الى اتفاق أضنة بين تركيا وسورية لكن هذا الاتفاق يتطلّب تطويراً ليتمكّن طرفاه من معالجة قضية حزب العمال الكردستاني وهيمنته الحالية على أكراد سورية، وقد توافق أنقرة على التحاور مع دمشق إذا توفّرت لها الضمانات اللازمة لضبط الأكراد. كما يطلب الروس أن يتعاون الأكراد مع النظام السوري وليس مرجّحاً أن يمانعوا ذلك بعدما خذلهم الاميركيون ولا مجال لأي تفاهم بينهم وبين الأتراك.

عارضت طهران ودمشق العملية التركية، على رغم أن هدفها المباشر منع قيام “دولة” كردية أو “كيان خاص” كردي. أي أن نظامي بشار الأسد والملالي يؤيّدان بقوّة النتيجة التي تحقّقها العملية على الأرض لكنهما يرفضان بشدّة الطرف الذي يحقّقها. لماذا؟ لأن أنقرة تحرّكت بموافقة من واشنطن وموسكو، ولم تسعَ الى الحصول على ترخيص من “شرعية” الأسد. في الوقت نفسه يضمر الاعتراض الاسدي – الإيراني خشية من أمرين: أن يوفّر الانسحاب الأميركي فرصة لتفاهمات خاصة مع الروس في شأن الوضع في شمال شرقي سورية، وأن تطول المرحلة الراهنة من العملية بحيث تمكّن الأتراك من إقامة وجود دائم لهم شرقي الفرات.

اقرأ أيضاً: الأكراد يعلنون النفير العام.. واشنطن وموسكو ولعبة «شد العصا» تجاه أنقرة

فيما يركّز الاعلام ولا سيما الأميركي والغربي على الأطراف الرابحة من الانسحاب الأميركي، روسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد وحنى تنظيم “داعش”، فإنه يشير الى الأكراد كخاسر وحيد، وينسى شعب سورية كخاسر أكبر. واقعياً كان بإمكان الأكراد أن يربحوا الكثير بالنسبة الى مستقبلهم، فالفرصة التي سنحت لهم كانت ثمينة غير أن دخول “بي كي كي” وايديولوجيته على نسيجهم لم يحدث شرخاً في مجتمعهم فحسب، بل جعلهم يستسهلون التقلّب في التعامل مع النظام وايران أولاً ثم محاولة التحالف مع الروس، وعلى رغم عملهم مع الاميركيين واصلوا التغازل مع النظام واستعداء المعارضة السورية والتنكيل بنشطائها. لكن الأهم أنهم لم يتعلّموا شيئاً من تجربة إقليم كردستان العراق، لا في تأهيله نفسه ليصبح دولة ولا في رفض القوى الدولية محاولته الاستقلال.
أما لماذا يبدو شعب سورية الخاسر الأكبر فلأن خروج الولايات المتحدة من الأزمة ومصلحة تركيا في التكيّف مع الإرادة الروسية يعنيان نهاية آخر الأوهام بأن المجتمع الدولي سيضغط ليكون الحل السياسي منصفاً ومتوازناً. وللحديث بقية.

السابق
هذا ما جاء في مقدمات نشرات الاخبار المسائية لليوم
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الخميس في 10 تشرين الأول 2019