كيف نفهم سياسة «الأخ» أردوغان؟

دول مثل مصر وإيران و تركيا، لها القدرة أن تقول "لا" للدول الكبرى. مصر قالت "لا" للولايات المتحدة في مرحلة الرئيس جمال عبد الناصر، ثم قالتها للإتحاد السوفييتي في مرحلة الرئيس أنور السادات. وإيران المجاورة للإتحاد السوفييتي الراحل، قالت له "لا"، في حقبة سياسات المحاور الدولية، ثم قالتها للولايات المتحدة بعد إسقاط نظام الشاه، وما زالت. تركيا قالت "لا" للإتحاد السوفييتي في مرحلة انقسام العالم بين محورين شرقي وغربي، ومنذ أكثر من عقد، تقول نصف "لا " للولايات المتحدة، ونصف " نعم" لروسيا .

وثمة دول ثلاث في العالم الإسلامي، هويتها الوطنية والهوية الشخصية لأفرادها شديدة الإلتصاق بالإسلام.
الدولة الأولى هي باكستان وفيها يقول الرئيس الباكستاني الأسبق محمد أيوب خان في كتابه “أصدقاء لا سادة “الذي نقله إلى العربية المفكر عمر فروخ (مكتبة لبنان ـ بيروت 1968): “إن المثل العليا بالنسبة لنا هي الإسلام وعلى هذا الأساس كافحنا من أجل باكستان و على هذا الأساس نلنا باكستان” .
وأما الدولة الثانية فهي إيران وخصوصا بعد غلبة المرحلة الصفوية التي أعادت تشكيل ايران الجديدة بعدانقسامات وحروب ضروس سبقت وصول الأسرة الصفوية الى الحكم والملك في بدايات القرن السادس عشر، ويسهب المستشرق الفرنسي هنري كوربان في تفصيل ذلك في كتابه “عن الإسلام في إيران” (ترجمة نواف الموسوي ـ دار النهار ـ بيروت 2000).
والدولة الثالثة هي تركيا ، وفيها يقول المستشرق البريطاني ـ الأميركي برنادر لويس في كتاب عميق صادر في العام 1960:” لا يوجد شعب من الشعوب التي اعتنقت الإسلام ذهب الى اغراق هويته في خضم الأمة الإسلامية كما فعل الأتراك ، وتاريخ الأتراك قبل اٌلإسلام لم يحظ بالإهتمام على الإطلاق، وتحت وطأة العبء المزدوج من التقاليد الإمبراطورية والتقاليد الإسلامية انمحى الإحساس بالهوية الوطنية “،( برنارد لويس ـ ظهور تركيا الحديثة ـ المركز القومي للترجمة ـ القاهرة 2016).

اقرأ أيضاً: كيف نفهم سياسة «الرفيق» بوتين؟

وفيما دخلت تركيا ، كما يقول وزير الخارجية ورئيس الوزارء التركي الأسبق أحمد دوواد أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي” (الدار العربية للعلوم ـ بيروت 2011) كقوة امبراطورية قارية عتبة القرن العشرين مع نظيرات لها ( بريطانيا ـ فرنسا ـ روسيا ـ النمسا والمجر ـ اليابان ) ، فإن الدول القومية التي ورثت الإمبراطوريات المنهارة في الحربين العالميتين الأولى والثانية،حافظت على الروح والمرتكزات السياسية الإمبراطورية السالفة،ولئن تسلمت ألمانيا راية الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية، فبات “اليورو” الأوروبي خليفة “المارك ” الألماني مهيمنا على مجمل المساحة الأوروبية التي غزتها الدبابات الألمانية في الحرب الثانية، وتموضعت اليابان قوة امبراطورية من جديد ، إنما اقتصادية على المستوى العالمي ، فإن الصين والهند كدولتين امبراطوريتين عميقيتن في التاريخ ، حافظتا بدروهما على تلك الروح الإمبراطورية المتأصلة بعد الإنزياح الإستعماري عنهما ، وعملتا على تجديد التاريخ الإمبراطوري لهما بفضاء جغرافي قريب وفضاء علمي ـ اقتصادي أكثر بعدا ، ونحت بريطانيا نحو تكيف امبراطوري مستحدث من خلال “دول الكومنولث” والعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وانتهجت فرنسا المسار الدبلوماسي والسياسي والثقافي، وروسيا استعادت روحها الإمبراطورية بعقيدة جديدة هي الشيوعية، وبعد انهيار الشيوعية أعادت روسيا انعاش روحها الإمبراطورية بقيصرية جديدة قوامها المواءمة بين الهوية الوطنية الروسية والهوية الأرثوذوكسية على ما يقول المفكر الروسي الكسندر دوغين .
على هذا البساط ، يمكن الوقوف للإطلالة على محاولة لفهم السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أروغان ، وهي محاولة ترتكز بدروها على إدراك أردوغان لعاملين فائقي الحضور في بلورة سياسته الخارجية، أولهما يتمثل بإلتصاق الإسلام التركي بالتاريخانية العثمانية، والثاني لصيق الإرتباط بموقع تركيا الجغرافي والإستراتيجي كـ”دولة جسر” بين الشرق والغرب والبحرين المتوسط والأسود، بالإضافة إلى الثقل السكاني لتركيا وقوتها الإقتصادية الناهضة التي جعلتها عضوا في النادي الإقتصادي الأقوى في العالم والمعروف ب “مجموعة العشرين”.
ومن على البساط إياه، يمكن الإلتفات بإسهاب وطول نظر، نحو العقل السياسي للرئيس أردوغان ،بكونه عقلا تاريخيا يسعى نحو إعادة ترميم القطيعة بين مرحلتين أي مرحلة ما قبل الغاء الخلافة الإسلامية في العام 1924، ومرحلة ما بعد الغاء الخلافة ،وعملية الترميم هذه تستند إلى قاعدتين:
ـ الأولى : استلهام النموذج الألماني ـ الياباني القائم على تثبيت وتجديد الروح الإمبراطورية بوسائل متجددة قوامها القوة الإقتصادية والتجارية (حجم الإقتصاد الكلي حوالي 900مليار دولار ) ومن أمثالها افتتتاح أكبر مطار في العالم وتسميته ب “مطار اسطنبول “وإغلاق مطار آتاتورك” وتحويله إلى حديقة عامة (لاحظ القطيعة مع آتاتورك).
ـ الثانية : استلهام النموذج الروسي القائم على الدمج بين هويتين عميقيتن ، ففي النموذج الروسي ” البوتيني ” تمحور الدمج بين الروسية والأرثوذكسية وفي النموذج التركي ” الأردوغاني ” يتمحور الدمج بين العثمانية والإسلامية ، وهذه بحد ذاتها قطيعة ثانية مع المرحلة الآتاتوركية .
وإذا ما ذهب القول إلى الإشارة بأن استلهام إعادة تشكيل الروح الإمبراطورية بالتوافق مع إعادة تشكيل الهوية التركية وفقا لقاعدة إمبراطورية ـ عثمانية ـ اقتصادية ، تأخذ من الغرب والشرق، فما يجب قوله أيضا، إنه يفترض التطلع إلى رجب طيب أردوغان كإمتداد إلى صراع حاد بين تيارين في تركيا منذ سطوع نجم مصطفى كمال آتاتورك ( 1881ـ 1938)، الأول أخذ بالإتجاه الإسلامي ـ العثماني وانتكس وتبعثر ولجأ إلى العمل إلى ما تحت الأرض والظل ، والثاني اعتلى السلطة والقرار بإلغاء الخلافة في العام 1924، واستمر منفردا ومتفردا بمواقع القرار والقوة حتى العام 1950.
الإتجاه الأول ، او ما يسميه كثيرون بالإتجاه الديني ، لم تأخذه إجراءات آتاتورك الصارمة إلى رفع الرايات البيضاء بتسليم ورضا ، بل ذهب إلى حدود المواجهة الدموية كما فعل شيوخ الطرق الصوفية والدينية ،ويصف المفكر القومي العربي الفلسطيني محمد عزة دروزة ( 1888 ـ 1984)، وهو الذي أقام في تركيا بين الأعوام 1941ـ 1945 في كتابه ” تركيا الحديثة ” تلك المواجهات بأنها ” ردة فعل لعصبية دينية على انقلاب جرف ستة قرون”، ( دار الكشاف ـ بيروت 1946)،ويورد الملحق العسكري البريطاني في تركيا ه.س. أرمسترونغ ، تفاصيل عن أشكال وأنواع المواجهات الحاصلة بين آتاتورك وخصومه آنذاك ، في كتاب شهير له عن مصطفى آتاتورك بعنوان ” الذئب الأغبر” اصدرته دار “الهلال ” المصرية في العام 1952 ، فيقول “: إن آتاتورك حين عزم على الغاء الخلافة قال في الجمعية الوطنية: سواء وافقتم أم لم توافقوا سيتم فصل الخلافة عن السلطنة ، كل ما في الأمر ان بعض رؤوسكم ستسقط”، وفي كتاب ” تركيا من آتاتورك إلى اربكان” للباحث المصري في الشؤون التركية رضا هلال أن مصطفى كمال آتاتورك ، ألقى في الثلاثين من أغسطس / آب 1925، خطابا في مدينة “قسطموني” حيث تنتشر الطريقة الصوفية المولوية وهاجم أهل الطريقة بالقول :” إن طلب العون والمساعدة من قبور الأموات ليس من صفات المجتمع الإنساني المتحضر ،وإن الجمهورية التركية العلمانية لا يمكن ان تكون بعد اليوم أرضا خصبة للمشايخ والدروايش، وعلى مشايخ الطرق أن يفهموا هذا الكلام بوضوح ،وأن يغلقوا زواياهم وتكاياهم عن طيب خاطر وإلى الأبد قبل أن ادمرها فوق رؤوسهم”، ( تركيا من آتاتورك إلى اربكان ـ دار الشروق ـ القاهرة 1999).
إن المشاهد والوقائع السابقة الذكر ، توجز عموما حدة المواجهة بين التيارين السياسيين التركيين المشار إليهما قبل حين، وهي لم تخل من دمويات متقابلة باهظة وعنيفة، ولا من إعدامات مثلما جرى مع شيخ الطريقة النقشبندية سعيد الكردي وغيره .
توفي مصطفى كمال آتاتورك في العام 1938، و بعد ست سنوات على رحيله ، جرت أول انتخابات عامة في العام 1946 على مبدأ التنافس الحزبي للمرة الأولى منذ نشوء الجمهورية الجديدة ، وبدا التيار الديني في هذه الإنتخابات ملتقطا أنفاسه وخارجا من تحت الأرض والأنقاض إلى مكان فسيح تحت الشمس، فحصل ” الحزب الديمقراطي ” بقيادة عدنان مندريس على 65 مقعدا نيابيا ولينضم إليه في وقت لاحق 47 نائبا انفصلوا عن حزب “الشعب الجمهوري” ، الذي كان يتزعمه عصمت أينونو خليفة آتاتورك .
لم يكن عدنان مندريس إسلاميا ، إنما حملته الإنتخابية قامت على أساس خفض منسوب الغلو العلماني وإعادة الآذان باللغة العربية ، فتجمهرت حوله الإتجاهات الإسلامية ، وظهر واضحا أن هذه الإتجاهات التي سكتت وصمتت لعقدين ونيف ، أعادت تنظيم أطرها وهياكلها بإنتظار المنعطف الإنتخابي الحاسم في العام 1950، حين ذهب حوالي تسعة ملايين تركي إلى صناديق الإقتراع ، فأسقطوا حزب “الشعب الجمهوري” الذي نال 69 مقعدا نيابيا فقط، مقابل 408 مقاعد ل “الحزب الديمقراطي” بقيادة عدنان مندريس وجلال بايار، وفي أول خطبة لمندريس في مجلس النواب إثر فوزه بالإنتخابات ، قال إن تركيا تركت مرحلة ودخلت في مرحلة جديدة، ولم يأت على ذكر مصطفى كمال آتاتورك .
وفي العمليات الإنتخابية اللاحقة، استمر مندريس متقدما بفوزه الإنتخابي على خصومه في حزب “الشعب”، إلى أن تمت إطاحته بالعملية الإنقلابية في العام 1960،وإعدامه في العام 1961، وإثر ذلك ، عاد الخفوت والتراجع ليضرب الإتجاهات الدينية، لكن هذه المرة لم يطل الأمر ، فالأتراك كانوا أمام مفصل انتخابي جديد في العام 1965، ومجددا ،تجمهرت الإتجاهات الدينية حول حول حزب “العدالة” بقيادة سليمان ديميريل ،الذي حصل على ما يتجاوز 52في المائة من أصوات الناخبين .
وبعد سنوات قليلة، وبالتحديد في العام 1970، كان نجم الدين أربكان، يؤسس حزب “النظام الوطني” بمرجعية دينية ظاهرة وغير خفية، فيما اتجاهات دينية أخرى استظلت بحزب ” الوطن الأم” بقيادة تورغوت اوزال (1927ـ 1993)، غير أن هذا الإستظلال للإتجاهات الدينية بأحزاب اليمين، كان يرافقه بعد العام 1970، تكريس ظاهرة الإسلام السياسي العلني.
فبعد حزب “النظام الوطني”، بقيادة أربكان، تم إنشاء حزب “السلامة الوطنية” بقيادة أربكان أيضا، ومن ثم حزب ” الرفاه ” الذي قاده أربكان إلى رئاسة الوزارء في العام 1996، حيث تم إسقاطه بعملية عسكرية انقلابية في يونيو / حزيران 1997، وبعد خمس سنوات من إطاحة الإتجاه الديني بزعامة أربكان عن رئاسة الوزراء التركية ، استعاد هذا الإتجاه رئاسة الوزراء إنما بقيادة جديدة تصدرها هذه المرة رجب طيب أردوغان في العام 2002.
إن هذا السرد البياني ـ التاريخي لمفاصل ومنعطفات الإتجاه الإسلامي التركي، يوضح تجذر هذا الإتجاه في النسيج الإجتماعي ـ السياسي في تركيا ، وهو اتجاه امتدادي لمرحلة ما قبل آتاتورك، واتجاه امتدادي لمرحلة المواجهة مع آتاتورك وخلفائه ،مع ملاحظة المتغيرات والمتكيفات الطارئة على المنظومة السياسية والفكرية للإتجاه المذكور .
و لذلك ليس من الغرابة ، أن يُجهر رموز من الإتجاه الديني جذور روابطهم السابقة وامتدادهم التاريخي، وهذا ما ينقله أحد أهم الباحثين العرب في الشؤون التركية ، محمد نور الدين عن الرئيس التركي السابق عبدالله غل إذ يقول: “إن اربكان امتداد لخط اليمين التركي الذي كان مع مندريس ثم مع الرئيسين سليمان ديميريل وتوروغوت أوزال” ( تركيا: الجمهورية الحائرة ـ مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق ـ بيروت 1998)، وفي حال ملاحظة أن عبد الله غل انزاح الى رجب طيب أردوغان بعد انشقاق الأخير عن أربكان ، فإن تقويله بأن أردوغان هو امتداد لأربكان وأوزال وديميريل ومندريس، لا يخرج عن سياق الرأي والتوصيف الذي أطلقه عبد الله غل وأراده .
وعلى هذا الأرضية ،غدا بالإمكان القول، إن السياسة العامة لرجب طيب أردوغان تنطلق من إطار فكري عثماني ـ إسلامي، كوجه أول لبعث هوية تركية جديدة متصالحة مع تاريخها ومنفصلة إنما ليس بحدية وصدام مع الهوية التركية الوطنية التي سعى إليها مصطفى كمال آتاتورك، وأما في مجال السياسة الخارجية، فلا شك أن العثمنة الجديدة والمتأقلمة مع المتغيرات الدولية، تشكل عنصرا شديد الحضور في سياسات أردوغان الخارجية.
ولأجل المقارنة في مجال السياسة الخارجية ، بين آتاتورك وأردوغان ، لا بأس من هذه المقارنة:
ـ في خطاب ألقاه في الأول من ديسمبر / كانون الأول 1921، قال مصطفى كمال آتاتورك على ما يورد برنارد لويس: “ربما واحد من مواطنينا تغذى ذهنه بمثالية عالية، فهو حر ،لكن حكومة تركيا متواضعة جدا ولديها سياسة مادية حازمة ضمن الحدود الوطنية المعينة، بعيدا جدا عن الأوهام وواقعية جدا”.
هذا الخطاب، كان قبل “معاهدة لوزان ـ 1923″، التي أبطلت “معاهدة سيفر 1920″ المجحفة، وأعادت اعترافا دوليا برسم الحدود التركية مع دول الجوار ( ومواد أخرى )، إلا أن آتاتورك يقدم رؤية من خلال هذا الخطاب، تنطوي على انطواء داخل تركيا وضمن حدودها الوطنية في مرحلة ما بعدالعثمانية.
ـ إلا ان الرئيس رجب طيب أردوغان، أعاد مرات عدة استحضار ” معاهدة لوزان ” وطالب بإعادة طرحها مجددا على طاولة البحث، (ـ وكالة أنباء الآناضول 7ـ 12ـ 2017 ـ صحيفة الشرق الأوسط 12 ـ 10 ـ 2016 ) ومع هذا الإستحضار ل”معاهدة لوزان”، يصار تلقائيا إلى إعادة استحضار الخلفية العثمانية لمثل هذه الإشكالية حيث يقول أردوغان إن هذه الإتفاقية نزعت من تركيا ثمانين في المائة من مساحتها ( سمير صالحة ـ صحيفة العربي الجديد ـ 18 ـ 10 ـ 2016 ).
والفارق واضح بين الرؤيتين، فآتاتورك ينظر إلى مرحلة ما بعد العثمانية، وأردوغان يتطلع إلى ما قبل العثمانية.
ومع ذلك ، يمكن القول إن الإتجاه العثماني لأردوغان ، ليس بالضرورة أن يكون اتجاها توسعيا جغرافيا، فمثل هذا الإتجاه أو الطموح يقتضي إعادة النظربخرائط الدول القائمة، وخصوصا الدول التي تشهد نزاعات مريرة وفقا للنموذجين السوري والعراقي ، ويدرك أردوغان أن مراجعة هذه الخرائط والنظر مجددا إلى طبيعة الحدود ، ليس أمرا بمتناول القبضة التركية بل يتعداها إلى أزرار نووية تحمي أقلاما قادرة على رسم خرائط جديدة ، وهي شبه محصورة في الولايات المتحدة وروسيا ، ولذلك ، يذهب الترجيح إلى القول بأن مثل المطالبات القاضية بمراجعة او تفسير “معاهدة لوزان”، مرتبطة بصورة أولية بإستمرار تحريك الروح العثمانية في الداخل التركي ، ومن جهة اخرى مسعى أردوغان لإستنساخ السلوك التركي في جزيرة قبرص الممتد من العام 1974، وتطبيقه على سوريا والعراق، من خلال ادخال قوات تركية إلى هاتين الدولتين والرهان على استعصاء الحلول السياسية أو استبعاد اقترابها .
تلك دائرة أولى من النقاط التي تجدر مراقبتها في السلوك الخارجي للرئيس أردوغان ، أي استنساخ النموذج التركي في قبرص أو محاكاته في أقل تقدير.
وأما الدائرة الثانية، فتتصل بالنموذج الإقتصادي ، كعامل جذب خارجي وتوسعي من خلال القوة الناعمة.
والدائرة الثالثة، مضمونها توسيع شبكة المصالح مع ” الفضاء التركي المفتوح ” في آسيا الوسطى، (اوزبكستان 10 مليار دولار ـ آذربيجان: 5 مليار دولار مضافة إلى حجم استثمارات رجال أعمال الطرفين 20 مليار دولار ـ كازاخستان: 3 ملياردولار ـ تركمانستان :البضائع التركية تشكل26 في المائة من الورادات التركمانية ـ قرغستان : مليار دولار).
ـ الدائرة الرابعة عنوانها أوروبا: فقد بلغت صادرات تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، في العام 2017 69 مليار يورو، ووقفزت في العام 2018 إلى 76 مليارا ( العربي الجديد ـ 18 ـ 3ـ 2019).
ـ الدائرة الخامسة: رفع مستوى العلاقات السياسية والإقتصادية مع الدول الأفريقية ، ففي العام 2018، بلغ حجم الصادرات التركية إلى دول الإتحاد الأفريقي 20مليار دولار ، وارتفع عدد السفارات التركية في أفريقيا من 12 سفارة في العام 2012 إلى 42 سفارة في آواخر العام 2018، وتخطط تركيا إلى رفع عدد سفاراتها في افريقيا إلى خمسين سفارة .
وبصورة عامة ارتفعت الصادرات التركية في العام2018 الى 170مليار دولار ( صحيفة ” يني شفق” ـ 4ـ 1ـ 2019 ) .
الدائرة السادسة التي يمكن يمكن وصفها ب”القاعدة” في علاقات التركية الخارجية ، أسوة بالقاعدتين العثمانية والإقتصادية ، هي قاعدة العلاقات مع روسيا وإيران ، ولا ينم هذا التوصيف عن بعد محوري لهذه “القاعدة”، كما ذهب غلاة “المنجمين التلفزيونيين ” إثر العملية الإنقلابية الفاشلة التي استهدفت الرئيس أردوغان في يوليو / تموز 2016 ووقوف طهران وموسكو إلى جانبه ، فواقع العلاقات بين الأطراف الثلاث يرتكز أولا على أبعاد براغماتية أنتجت ثمارا نفعية كبرى وضخمة صبت في مصالح هذه الأطراف ، التي تعي تماما أن صداما بين إيران وتركيا ، يعيد إحياء الحروب الصفوية ـ العثمانية بفظاعتها الشيعية ـ السنية ، كما أن الصدام التركي ـ الروسي يعيد إشعال فتائل الصراع الإسلامي ـ الأرثوذكسي حول القسطنطينية المتحولة إلى اسطنبول ،وانطلاقا من ذلك ارتأى الثلاثي التركي ـ الإيراني ـ الروسي تنظيم وحصر الخلاف حول سوريا والإتفاق حول ما عداه.
وأما العلاقات التركية ـ الأميركية، فمن الصعب إعادة تموضعها في نصاب الإستلحاق التركي بالولايات المتحدة ، لأسباب أهمها زوال التهديد السوفييتي بإجتياح الأراضي التركية، مثلما كانت الصورة عليها منذ هدد جوزيف ستالين في العام 1947 بإحتلال مضائق الدردنيل والبوسفور، ومن دون أن يعني ذلك خروج تركيا من عضوية “الناتو”، جراء زوال التهديد الأحمر ، فذاك وجه إفادة لتركيا توازن به صداقتها غير المفرطة مع روسيا، مما يرسم في هذا الخصوص قاعدة رابعة في العلاقات التركية الخارجية قائمة على عدم التطرف في “الشراكة السلبية” مع كل من روسيا والولايات المتحدة.
ومع كل ما ورد سابقا ، يجب التأكيد على عدم ارتسام الدوائر الخارجية في السياسة التركية، وهي في طريق الإكتمال كلما ارتسمت معالم بناء الهوية الوطنية لتركيا ما بعد الآتاتوركية ، حيث روح العثمنة ـ الإسلامية المتجددة هي قاعدتها الأولى ، و”النموذج العثماني ” الإقتصادي هو قاعدتها الثانية، وملامح هاتين القاعدتين أطلت برأسها مع عدنان مندريس في العام 1950، ومن ثم مع سليمان ديميريل، فتورغوت أوزال، فنجم الدين أربكان، فرجب طيب أردوغان .
وستفرض هاتان القاعدتان أصولهما وظلالهما على خليفة أردوغان، مهما كان لون حزبه وشكله ونوعه، حتى لو كان من حزب “الشعب” الذي اضطر في الإنتخابات الرئاسية في العام 2014 لترشيح شخصية إسلامية هي أكمل الدين أوغلو لمنافسة أردوغان، وتبنى حزب “الشعب” أيضا ترشيح محرم اينجه للإنتخابات الرئاسية في العام2018 كشخصية غير صدامية مع الإتجاهات الإسلامية ،ومحرم اينجه كان يردد في حملته الإنتخابية إن شقيقته محجبة، مما يعني أنه خاض تلك الإنتخابات ب”حجاب الشقيقة”، وحتى الفائز بالإنتخابات المحلية عن بلدية اسطنبول في مايو / آيار 2019، إمام أكرم أوغلو، عمد في حملته الإنتخابية إلى قراءة الفاتحة على ضحايا الهجوم العنصري على مسجدي نيوزلندا، وكان خلال هذه الحملة يقرأ آيات قرآنية في شوارع اسطنبول ، مما آثار حفيظة الصقور في حزب “الشعب” واعتبروا فعلته مخالفة للتقاليد النمطية العلمانية لهذا الحزب.
خاتمة القول تكمن في محورية العثمنة المتجددة غير المنفصلة عن الإسلام كهوية جديدة لتركيا كدولة ومواطنين، وفي محورية النموذج الإقتصادي لهذه العثمنة، وعلى الأرجح أنه من الصعوبة بمكان الخروج عن هذا القالب حتى من قبل الخصوم التقليديين لحزب “العدالة والتنمية”، الذين يضطرون مع كل استحقاق انتخابي أن يأخذوا بثوابت اتجاهات أغلبية الرأي العام التركي، وهذا ما يفرض بدوره على حزب “الشعب” تجديد الآتاتوركية لعقد مصالحة مع العثمانية، او عدم الصدام معها ،مثلما عملت العثمانية على تجديد نفسها بالمصالحة مع الآتاتوركية وعدم الذهاب إلى الصدام المر معها.

السابق
نانسي عجرم: ما زالت في الصدارة
التالي
القوات: ما قاله بو صعب عن دفع 2000 دولار أميركي لأحد المواقع الإلكترونية كاذب