إسمع يا دولة الرئيس (45): مسلك علماء الشيعة بين الفقر والثراء

الشيخ محمد علي الحاج
"يا أبا ذر، ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، ويبصره عيوب الدنيا ودائها ودوائها" الرسول محمد.

عقب حديثنا عن مفتي الشيعة وقضاتهم أختتم الموضوع معرجاً بالحديث حول ثراء طلبة العلوم الدينية، وانعكاس ذلك على انتفاء تأثيرهم في الأوساط الشعبية.

دولة الرئيس؛

جرت العادة خلال إعداد طلبة العلوم الدينية التركيز على مفاهيم الزهد، وعدم الانكباب على الدنيا وملذاتها، وعلى أن يعيش العالم الديني بشكل يواسي فيه المعوزين والفقراء.

وديدن العلماء هذا انقلب في عصرنا الراهن، فأضحى الإثراء وتجميع الأموال هماً أساسياً في حياة “المعممين”.. وصرنا نرى الترف في الجسم الديني، بشكل غير مسبوق بتاتاً بين علماء الشيعة في جبل عامل ولبنان.

الأستاذ النبيه؛

يتردد في أدبياتنا الحوزوية ذكر ملازمة الفقه للفقر، وأن بينهما حرف فقط، فمتى ما أبدلنا راء الفقر هاءً صارت فقها (فقر، فقه)، وأن من الصعوبة على الأثرياء والمتمولين تحصيل العلوم الدينية والتبحر فيها، مع المحافظة على روحية عالية.

وأضيف على ذلك بأنه في الوقت الذي يضمحل الزهد بين العلماء، تنقرض التقوى، وينعدم تأثير العلماء.. فالثراء لا ينتج طلبة مبدعين أتقياء، وأن حياة الترف قضت على الروحية الصافية لأهل العلم.

الرئيس الحبيب؛

هل تعلم بأن الإمام السيد محسن الأمين (قدس سره) لم يكن يملك تكاليف سفره لطلب العلم في حوزة النجف الأشرف، وأنه باع الحبوب في سبيل ذلك؛ ثم وصل إلى مراتب علمية عليا، وأضحى من كبار مراجع الدين؟

فقد ورد في سيرته أنه استخار على السفر لطلب العلم: “.. وخرجت الاستخارة جيدة، وبدأ السيد محسن الأمين يستعد للرحيل مع عياله، واستطاع خلال فترة قصيرة أن يبيع من الحبوب وغيره بقيمة كان بحاجة إليها، وفي آخر يوم من شهر رمضان المبارك عام 1308 ھ – 1890 م غادر الأمين شقراء قاصدا العراق” السيد محسن الأمين سيرته ونتاجه، صفحة 38-39 .

وأما العلامة الشيخ محمد جواد مغنية فسيرته تدمي القلوب، وهو الذي لم يكن يملك قوت يومه، وذات مرة بقي ثلاثة أيام من دون طعام جاء في تجاربه: [“كنت أقضي الأيام طاويا لا أذوق الطعام إلا حبات من الحمص المقلي أو من الفستق، آكلها مع القشور، أشتريها من دكان القرية، حتى هذه كان يحرمني منها صاحب الدكان، لعجزي عن وفاء الدين القديم، وما زلت أذكر حتى الآن أني أمضيت ثلاثة أيام لم أذق فيها شيئا” .

بل وفي سيرته أيضا لم يكن يمتلك الثياب في الشتاء: “كنت أخشى فصل الشتاء والبرد، بخاصة إذا غابت الشمس وأقبل الليل، كنت أقيم في بيت أبي القديم أجلس على الأرض، وأثني ساقي واضعا صدري على فخذي، وساعديّ على رأسي أغطي جسدي بعضه ببعض، حتى أصبح كالصرة المربوطة عسى أن تخف وطأة البرد..” تجارب محمد جواد مغنية، صفحة 34 – 35.

وحياة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين لم تكن أقل قساوة، حيث يذكر الصعوبات المعيشية لطلبة العلم، ومما يقوله: “وكنت إذ ذاك في بداية الشباب، وفي ذروة الحياة الدراسية في النجف الأشرف وحلقاتها العلمية، حيث الفقر – حينذاك – والحاجة إلى سد الجوع، وطي الليالي والأيام بلا طعام، وحين يتيسر الطعام فهو غالبا طعام بسيط، فقد كان الشبع من الطعام الجيد ترفا نادرا، وحيث البحث في ليالي الجوع الظلماء عن نفايات الخبز في شرفات غرفة الطلبة في المدرسة..” ويتابع: “وحيث النوم بلا طاء أو بلا غطاء، وحيث الثياب الممزقة والمرقعة” الشيخ شمس الدين بين وهج الإسلام وجليد المذاهب، صفحة 36.

وأما المرجع السيد محمد حسين فضل الله فقد ذكر أنه كان يبيت جائعا خلال طلبه للعلم في النجف الأشرف، ولم تكن حالتهم أكثر يسرا من سواهم..

الرئيس النبيه؛

هذا هو الفقر الذي حفّز على التحصيل والإبداع، وهذه النشأة البائسة هي التي جعلتهم يطورون أنفسهم، وأبقت الصفاء في نفوسهم.

والأهم من ذلك هو حينما نتمكن من المال ونعرض عنه، ونتمكن من العيش برفاهية ونتركها، هذا يمثل قمة الزهد،حينما نختاره بملء إرادتنا مسلكا ومنهجا، ولا يفرض علينا، بفعل ظروف الحياة.

وأفضل توصيف لحالة الفقر عند طلبة العلم هو تعبير الإمام شمس الدين عنها ب”النعمة” حيث يقول: “والحمد لله على نعمته، فقد كانت أياما مباركة، رزقنا الله فيها الصبر، وكانت قسوتها تربية وترويضا وإعدادا لما أراده الله اللطيف بعباده.. كانت حياة قاسية، وكان الملاذ من كل ذلك إلى الدرس والقراءة وزيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام..”

السابق
«بابا نويل» في مختلف بلدان العالم
التالي
«الجنجويد» العرب