القوات اللبنانية: العقدة النفسية الوهمية وفرصة بناء الدولة

تأسست الجمهورية اللبنانية عام 1922 وكان من أهم دعائم تأسيسها واستقلاليتها واستمرارها الرؤساء الراحلون بشارة الخوري ورياض الصلح وصبري حمادة (ماروني وسني وشيعي) إلتقوا على هدف واحد لبنان أولا ، بدون الإرتباط بأي مشروع أو جهة عربية أو إقليمية أو عالمية, لذلك استقل لبنان وانطلق نحو الجمهورية الأولى وبدا هذا الكيان الصغير للعالم العربي والغربي أول نموذج لدولة عربية متنوعة متحضرة تسودها ثقافة ديموقراطية تجمع كل ألوان الطيف العربي بمختلف انتماءاته الدينية والعقدية والسياسية.

وقع الإنقلاب على بشارة الخوري واغتيل رياض الصلح وماتت فكرة لبنان أولا بعد ان خلفهم بالرئاسة والسياسة والإدارة طاقم جديد ربط البلد بمشاريع خارجية أدت إلى انقسام داخلي ولد ثورة 1958 ثم حل فؤاد شهاب رئيسا ليعيد البوصلة إلى إتجاهها الصحيح فنهض بالبلد نهوضا سريعا وأسس للبنان البنية التحتية والإدارية والمالية والخدماتية . إلا أن تطورات الصراع العربي الإسرائيلي الناجمة عن نكسة 1967 أعادت ربط لبنان بتداعيات هذا الصراع وربط سياسييه وزعامئه باجندات خارجية قضت مجددا على قدسية لبنان أولا وأعادت البلد إلى اتون التجاذبات والصراعات التي تجسدت بالحرب اللبنانية الثانية عام 1975.

• تحولات ما بعد الحرب والطائف

وضعت الحرب اللبنانية أوزارها عام 1990 وكان المدماك الأساسي الذي انطلق منه التأسيس لوقف الحرب ومن ثم محادثات الطائف هو موافقة القوات اللبنانية ( القوة المسيحية العسكرية الأكبر) على الدخول في تلك المحادثات للوصول إلى الوفاق الوطني مع أن الكثير من الأفرقاء آنذاك كانوا إما معارضين وإما متربصين بإنتظار فشل تلك المحادثات.

اقرأ أيضاً: لا نعيش في جزر منعزلة…

أنجز إتفاق الطائف وانتخب الرئيس الراحل رينيه معوض رئيسا للجمهورية الثانية وبدأ مباشرة يشعر بوصاية سورية تعدت حدود الإخوة والتنسيق ولمس الرئيس الراحل أنه مقبل على مرحلة جديدة في التعاطي مع النظام السوري كوصي جبري على لبنان لذلك قال مقولته الشهيرة قبل اغتياله يأيام للمقربين منه بعد انتهاء اجتماعه بنائب رئيس الجمهورية السورية عبد الحليم خدام : “الظاهر مش رح يمشي الحال مع ابو جمال (عبد الحليم خدام)”.

كان الرجل أي معوض إستقلاليا بطبعه وقد وضع نصب عينيه أيضا هدف “لبنان أولا ” لذلك اغتيل سريعا ودفع الثمن غاليا.
بعد انتخاب الرئيس الهراوي وبدء تشكيل الحكومات المتعاقبة شعر سمير جعجع أن ما كان يصبو إليه من خلال إتفاق الطائف وهو الإندماج في دولة مدنية مستقلة لبناء دولة بكل ما للكلمة من معنى بات مستحيلا في ظل وصاية سورية إجبارية ونظام أمني يمسك بكل مفاصل البلد ووجود عسكري سوري وصل إلى بتغرين وبرمانا وعمق الوجود المسيحي, مما دفعه للنأي بنفسه جانبا ورفضه المشاركة بأي حكومة ، وأبدى اعتراضا وامتعاضا على جو سياسي غير صحي وعلى ارتهان لبنان وتبعيته العمياء للنظام السوري مما أدى إلى تدبير وتفصيل تفجير كنيسة السيدة في الغرف السوداء لإلباسه لرجل بحجم سمير جعجع وإعتقاله وإنهاء حالته السياسية والإعتراضية.

فتح القضاء للرجل ملفات الحرب كلها مسقطا العفو العام عنه بناء على إدعاء تورطه في تفجير كنيسة السيدة وأصدر القضاء بحقه أحكام وصلت للإعدام إلا في جريمة تفجير الكنيسة التي بني عليها إسقاط العفو عنه.

خرج سمير جعجع بريئا من هذه التهمة بحكم من القضاء نفسه. فما بني على باطل فهو باطل والتهمة التي أسقطت العفو العام عن هذا الرجل كان براءا منها لذلك كان يتوجب على القضاء أن يعيد العفو إلى أصله وأن يخرج الرجل من السجن إلا أن النظام السوري وظله في لبنان أبى إلا ان يبقى جعجع في سجن انفرادي في وزارة الدفاع لمدة 11 عام.

إذا كان جعجع مجرما بنظر بعض اللبنانيين فهو الرجل الوحيد من رجالات الحرب اللبنانية الذي أمضى عقوبة قاسية وخرج بعد ذلك ليعتذر من اللبنانيين على ما جرى في الحرب وهو الوحيد الذي أقدم على مراجعة ذاتية أدت به إلى الإقتناع الكامل بأن لبنان أولا وعدم الإرتباط بأي مشروع أو جهة خارجية هو السبيل الوحيد لبناء هذا الوطن على أساس العدل والمساواة والمؤسسات والقانون والدستور.

المعضلة اللبنانية التي نعيشها تكمن وتتجسد بارتباط معظم الزعماء والمراجع السياسية والاحزاب والكتل بمشاريع وأجندات خارجية يجعلون من الحياة السياسية في البلد ومن الدولة ومؤسساتها ومقدراتها وقودا لإذكاء تلك المشاريع وتقويتها وجعل لبنان صندوق دوليا لبريد المراسلات الإقليمية والدولية غير آبهين لا بمصلحة الدولة العامة ولا حتى بمصلحة طوائفهم, وكل مشروع استقلالي لبناني بحت يتحرر من الإرتباطات الخارجية ويتحرر من قيود الإرتهان إلى الخارج إما يتم تصفيته كما حصل مع كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد وبشير الجميل ورينيه معوض ورفيق الحريري وفريق 14 آذار أو إما بإيقاعه بالأفخاخ والمكائد و تشويه صورته وإقصائه كالشيخ صبحي الطفيلي وسمير جعجع وميشال عون (1988-1990) وأحمد الأسير وأحمد الأسعد.. ولن ننسى مشهد تصفية هاشم السليمان أمام السفارة الإيرانية.

• أبعاد التركيز على إستهداف القوات

نجد أن الأضواء الصفراء مسلطة دائما على القوات اللبنانية وربطها بذاكرة الحرب الأهلية بحيث تعمل حصرا على إستحضار ما وقع من القوات في الحرب المشؤومة دون سواها، والهدف دائما تشويه صورة هذا التيار السياسي العريض وخلق حاجز نفسي بينه وبين المسلمين والمسيحيين على حد سواء مع أن معظم الزعامات والقيادات اللبنانية متورطة في أفظع وأشنع وأقبح مما تورطت به القوات اللبنانية ولم يعتذروا ولم يبرروا ولم يقوموا بإجراء أي نقد ذاتي أو مراجعة بل على العكس يعتبرون أنفسهم أبطال الحرب والمنتصرون والغالبون, فإذا كان سمير جعجع متهما بقتل رئيس حكومة أيام الحرب فإن أطرافا في لبنان متهمة باغتيال رئيس حكومة سابق وزعيم لبناني مع عدد لا يستهان به من رموز ثورة الأرز ورجالاتها وهذا أيام السلم والوفاق ودولة القانون والمؤسسات.

الحرب النفسية والإعلامية على القوات وخاصة على سمير جعجع لا تعدو عن كونها حربا على كل من يعمل في هذا البلد بشكل مستقل ينسج العلاقات الخارجية في سبيل إنجاح مشروعه الداخلي المستقل على عكس ما يقوم به معظم الفرقاء في لبنان بحيث أنهم مرتهنين للخارج على حساب المصلحة الداخلية.

إن تنازل سمير جعجع عن رئاسة الجمهورية لمصلحة خصمه في السياسة والحرب والزعامة الرئيس ميشال عون جاء ليبطل قرارا مشى به البعض لإيصال سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة وهو خير دليل على أن سمير جعجع هو رجل دولةحريص على مصلحة البلد, وان هذا التنازل كان تنازلا لحماية البلد من قرار قد يذهب بنا إلى المجهول.

اقرأ أيضاً: إسمع يا فخامة الرئيس

مقالي هذا مقال سياسي موضوعي بحت ليس موجها للصنميين ولا إلى أنصار الزعماء بل إلى الرأي العام, وهو تحليل سياسي موضوعي يهدف لإزالة الغشاوة عن أبصار الكثيرين الذين يتأثرون بالأبواق الناعقة الفتنوية في المواسم والتي تعمل لتشويه الواقع والحقائق, وهنا أخص بالذكر إخواني وأخواتي وأنا منهم, من الذين لحق بهم الضرر من جراء بعض الحروب والتجاوزات التي قامت بها القوات اللبنانية خلال الحرب الأهلية وأذكرهم بأن ما جرى بين حركة “امل” و”حزب الله” خلال الحرب الأهلية أفظع بكثير مما جرى معنا ، وان حرب المخيمات كانت حربا لا إنسانية ضد الشعب الفلسطيني وأن مجازر الجبل تم إزالتها من الذاكرة بفعل مصالحة قام بها الجريء وليد جنبلاط والحكيم البطريرك صفير كانت من أفظع مجازر القرن لولا أن الحكماء عملوا جادين لإزالتها من الذاكرة والتداول.

لا داعي لأن نكون أدوات في كل بازار سياسي لكل من يلعب بنا وبعاطفتنا وذاكرتنا وينكا جراحنا لتذكيرنا بحروب فائتة ليس الهدف منها إلا تشويه صورة من يعمل حاليا و فعليا لمصلحة البلاد والعباد ، وإستخدامنا دائما كأداة لتمرير ما يريد تجار السياسة من خلال إحياء العقدة النفسية وإغراقنا فيها وخلق شرخ دائم مع جيراننا وشركائنا في الوطن.

السابق
معوقو عين الحلوة: نضال مستمر لتحصيل الحقوق
التالي
عين حزب الله على الجدار العازل ومستوطنة المطلة