عون حقق حلمه بالرئاسة متى يتحقق حلمنا بالإصلاح؟

حقاً رجع العماد عون إلى قصر بعبدا بعد ٢٦ عاماً على مغادرته مستسلماً «حقنا للدماء»، لكن آتياً من الماضي، من تاريخ رمادي جداً على أقل توصيف، وكأن ما كان هو الكائن اليوم، وما سيكون غداً.

انه سرطان الماضوية الذي يجعل كل طرف سياسي وطائفي لا يرى نفسه سوى في مرآة الماضي المقعرة، متوهماً أن تاريخه خط بياني واحد، لا انقطاعات فيه، النهاية بنتُ البداية، لا تبديل ولا تحويل، لا تراجع ولا تنازل، وانما مسار واحد، ومصير حتمي، يراه مكللاً بالنصر والفتوحات.

هذه الحالة يعيشها الجنرال عون اليوم وأنصارُ تياره السياسي، عقب انتخابه رئيساً للجمهورية المتعثرة. الاحتفالات الكبيرة التي تعمّ المناطق العونية ستكون بمفعول رجعي، أي وصلاً لما انقطع، أو استئنافاً للحظة بتراء. قصر الجمهورية هو «قصر الشعب» وسيّده هو رئيس لـ«الشعب اللبناني العظيم». استعادة حرفية لمفردات “التحرير” و”الالغاء” حتى لو خارج سياقها التاريخي.
جو انتصار برتقالي سيحاول جاهداً في الأيام الأولى فرض نفسه على المزاج العام في البلد، واخفاء شروط وجوده قدر المستطاع، ولأطول فترة سماح ممكنة، قبل أن يبدأ العهد الجديد أولى خطواته في حقل الألغام السياسي.
لا أحد يريد الآن أن يفرك عينيه جيداً. فلا جناح أن تُغمَضَ العينان على فرحة قبل أن تُفتحا ثانية على الواقع وتوازناته الدقيقة التي أوصلت زعيم الرابية الى الكرسي الاول، والتي لولاها، لما أضيف لقب الفخامة إلى العماد. لسنا على عجلة لمعرفة أيّ نسخة أخيرة للجنرال دخلت قصر بعبدا من باب المجلس النيابي «غير الشرعي» بنظر جنرال ما قبل الفخامة، فلربما يكون ذلك تفصيلاً صغيراً لا يستأهل الوقوف عنده طويلاً، فيما الآتي أعظم.
المهم أن العماد عون قد حقق أقصى أحلامه وبلغ منتهى طموحه السياسي، وهو في سبيل ذلك، كان مقاتلاً عنيداً خاض الصعاب وتحدى رياحاً إقليمية ودولية عاتية، وهذه شهادة تحسب له، وتجعل منه شخصاً إستثنائياً في تاريخ لبنان الحديث.
لكن إلى هنا و«ستوب»! الخطوات الأبعد ستكون أكثر ثقلاً بما لا يقاس بسهولة الشعارات واليافطات البرتقالية التي زيّنت لحد الآن مسيرة التيار الوطني الحر من الخارج، وأعطته هذا اللون السياسي الفاقع. أما داخل التيّار، فلم نرَ غير الحزبية والعائلية نفسها.

ميشال عون
الكل يريد عهداً رئاسياً ناجحاً، خصوصاً الناس التي لا أعتقد أنهم في قرارة أنفسهم، بانتظار موعد مع أشخاص معينين، مهما كانت صفتهم أو طبيعة القوى التي تدعمهم. الناس يريدون شيئاً وحداً: إسقاط النظام الطائفي اللعين والطبقة السياسية التي أفرزها طيلة عقود، والتي تأكل من أعمارنا وتتغذى على بؤسنا.
أجيال كثيرة تعرف الجنرال منذ ٣٠ عاماً. «زمطت» من حروبه العبثية، وحين سمعت خطابه من السفارة الفرنسية التي لجأ إليها فرداً من دون عائلته وضباطه، عرفت أن عمراً جديداً قد كتب لها. اعتقدت أن الطائف سيجّب ما قبله، ويقود بلدها المنهار إلى برّ الأمان. لكن خابت معظم ظنونها، وإذ بالمرحلة التي أعقبت إزاحة عقبة «الجنرال المتمرد»، تسقط في شرك تمردات كثيرة، أكثر خطراً على لبنان. بات التمرّد بضاعة الجميع ضد الجميع، تحت عناوين شتى، لا يهم، ما دامت النتيجة في نهاية المطاف واحدة: اغتيال مستدام للدولة وتغييب مستمر للشعب والمجتمع المدني.
رجع الجنرال من منفاه، ضرب بعصاه، ففلق التحالفات السياسية وقلب المعادلات رأساً على عقب. تموضع في خندق جديد لم يخطر على بال أحد قط. لكنه الجنرال.. صاحب المفاجآت التي تسقط على رؤوسنا كقذائف المدفعية، السلاح الأحب على قلبه.
صرخ بوجه الجميع: أريد حصتي من السلطة، أو حصة المسيحيين كما بدأ يقول لاحقاً، في مشهد نكوصي صارخ.
هل يعقل أن خروجاً بحجم وطن يتحول عند أول استحقاق إلى عودة بحجم طائفة أو أقل؟
دخل العونيون السلطة، عزفوا على أوتارها الطائفية والحزبية الضيقة، تبادلوا المناصب، وفرغوا فيها كبتهم السياسي. تصريحات نارية بالجملة من رأس الهرم العوني حتى أخمص قدميه. محاولات لتسويات فوق الطاولة وتحتها. ابتزاز ممنهج لعهود سابقة وحكومات ماضية. انتخابات داخلية بنتائج محسومة سلفاً وعلى المعترضين الخروج من الباب الواسع. لا مساومة على وراثة الجنرال السياسية. فهي قضية ما فوق حزبية لا تتعلق لا من قريب ولا من بعيد بأسبقية النضال ورفاق الدرب. يمكن القول أنها شأن داخلي مرفوع إلى الأس اثنين، كما هو الحال في كل حكم عربي.

اقرأ أيضاً: تهنئة من لاجئين سوريين للجنرال والشعب اللبناني!

مسيرة حافلة بالانجازات «المسيحية» منذ ٢٠٠٥ لم يغب عنها سوى الاصلاح الذي انتظر كافة الناس عبثاً ظهوره. لكنه شعار لا يبلى، هكذا بضربة واحدة أو عند استحقاق أو استحقاقين أو حتى ثلاثة. بل يتجدد مع كل مرحلة.
وهل ثمة اليوم مرحلة أهم وأعظم من الرئاسة في جمهورية باتت على وشك أن تخسر كل حروفها؟ فليستعار الشعار ثانياً وثالثاً ورابعاً، ولينتظر الناس أولى البشائر، لا ضير في ذلك، ما دمنا قد أبحرنا في أول ١٠٠ يوم من العهد العتيد، كما تتطلب بروتوكولات الحكم قبل الحكم.
العيون شاخصة نحو بعبدا، وما ستسفر عنه المشاورات النيابية لاستيلاد أول حكومة وفاق وطني في عهد فخامة العماد. الوقت سيكون تحدياً عنيداً، بما أن اللبنانيين فقدوا احساسهم به منذ زمن طويل. هل سينجح العهد الحالي بإعادة الثقة بيننا وبين الوقت؟ وهل سيملك الجنرال الفرصة المناسبة ليجعل من التاريخ الذي أفرغ فيه نوازع السلطة بالدم والنار، مجرد ذكرى أليمة لا مفاعيل لها في حاضرنا ومستقبلنا؟ هل سيملك الرئيس الجديد قوة الحكمة بدل حكمة القوة؟

اقرأ أيضاً: هل يبقى نبيه برّي في المشهد المقبل؟

صار الجنرال رئيساً، حقق حلمه الذي راوده طويلاً في الخنادق العسكرية والسياسية. وبقي لنا نحن اللبنانيين، دافعي فاتورة أحلام الجميع، أن نحقق ولو جزءاً يسيراً من أحلامنا.

السابق
خطف الآباء لأبنائهم يمتدّ الى إيطاليا…وهذه قصة الأم «كاملة»!
التالي
الرئيس الحريري ينال في ختام اليوم الأول 86 صوتاً