رفيق الحريري حيّ حتى في ضمائركم المعذبة

كنت في السادسة من العمر عندما عرفت رفيق الحريري اول مرة، كانت صورته مطبوعة على زجاج سيارة والدي المرسيدس الشهيرة في ذلك الحين ب " القطش".

في ذلك الوقت كانت تكاد السيارة الأكثر انتشاراً في البقاع، ولكن كان من السهل علي معرفة سيارة والدي، لم أكن اميّزها عبر لونها الأبيض، فمعظم سيارات ” القطش” بيضاء، ولم أكن اميزها ايضاً من صوت ” زمورها” فمهما اختلفت سيارات ” القطش” فالزمور واحد، ولا حتى من صوت المحرك، بل كنت اميّزها بصورة الرئيس رفيق الحريري التي تحتل وسط زجاجها الأمامي والخلفي ايضاً، كنت أراه يومياً اما على تلفزيون المستقبل الذي كان دائم الحضور في المنزل او عبر صوره المعلقة على الجدران، او تلك الملصقة على زجاج السيارة.

لم أكن اعرف من رفيق الحريري في البداية الا اسمه، وفي احد الايام أتى والدي بصورة جديدة له وهمّ الى تعليقها، ازداد حينها فضولي حول هذا الرجل..
فسألت والدي: ” بابا مين هالزلمي؟”
فقال لي: “انه الرئيس رفيق الحريري
فقلت له: ” بعرف اسمو هيك بس مين هو؟”
نظر الي والدي وقال: ” يلي عمر لبنان وعلم كتير ناس، وبس تكبر رح يعلمك كمان، وبدي تكون معو، لازم تحب رفيق الحريري وما تنساه ابداً ويكون مثلك الاعلى، لانو بدّي شوفو فيك بيوم من الايام”.

لم أكن ادرك ان حياتي ستكون جزءاً من مسيرة رجل، ترعرت على حبه وعشقه وتأييده، وقد كان لوالدي الدور الأكبر في ذلك، والدي ” الشيخ ابراهيم حسين” الذي حرم من منحة تعليمية من قبل الرئيس الشهيد عام 1984 بعدما منع النظام السوري دفعة من طلاب الازهر ( بيروت) من السفر لطلب العلم خارج البلاد، بسبب سياسة التضييق التي كان يمارسها نظام الاسد على الرئيس الشهيد وايضاً على المفتي الشهيد حسن خالد.

رفيق الحريري
وفاء ابي لذلك الرجل بالرغم من انه لم يستفد من المنحة التي كان من المفترض ان تساعده في تحقيق احلامه التي لم تسعفها لا الفيزا ولا الباسبور ولا حقيبته التي وضبتها جدتي ولا دموع الفراق… كان يكفي لعنجهية وظلم النظام البعثي ان يقضي على احلام الكثيرين، هذا الوفاء كان سبباً في تعلقي بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، فقد زرع ابي حبه في داخلي، حتى اصبح يجري كالدماء في عروقي، فقد كان يردد دائماً امامي انه سبب الحياة الكريمة التي يعيشها الجميع اليوم، فهو الذي أوقف الحرب وأعاد إعمار الوطن وعلم الناس دون تمييز لطوائفهم ومعتقداتهم، وهو الذي ساعد الفقراء واغاث المحتاج وقدم المنح المدرسية في الاقليم والبقاع ومناطق اخرى رغم عدم استفادته منها سياسياً، فمشروع رفيق الحريري لم يكن سوى بناء وطناً نفخر به وبأبنائه، كان مشروعه بناء الحجر والإنسان والعلم، فكان دائماً المثل الاعلى الذي أحتذي به كما أراد والدي، والذي اشكره اليوم وأنحني له اجلالاً، فقد زرع في داخلي الإيمان والحب والصدق والاصرار والتحدي والاقدام والانتماء والمواطنة والوفاء والتضامن مع المظلومين ونصرتهم ولو على حساب حياتي والموت لأجل الحق وفداءاً له، علمني كل ذلك لانه أراد ان أتحلى بصفاته وصفات الرئيس الشهيد.

إقرأ أيضاً: دور الرئيس الشهيد رفيق الحريري «من التحرير الى الشهادة»

لم انس حتى اليوم ولن انسى لحظة اغتيال الرئيس الشهيد في ١٤ شباط ٢٠٠٥، كنت حينها في الثانية عشرة من العمر، وتلميذاً في أزهر البقاع، قامت الادارة حينها بإخراجنا دون ان ندرك سبب ذلك، ثم سمعت احدهم يقول ” قتلوا رفيق الحريري” بإنفجار ضخم في العاصمة بيروت، بعضهم كان يهزأ بأسلوب الاغتيال، لا لوم عليهم، فهم لم يعرفوا حينها من هو رفيق الحريري، أبَيت تصديق الخبر حتى شاهدته على نشرات الاخبار، ورغم صغر سني الا انني لم أتمالك نفسي، ركضت الى غرفتي ووضعت رأسي على سريري وبدأت أبكي بشدة على رجل كنت اقتدي به وأحبه.

ليس سهلاً التسليم لبعض الاقدار في البداية، ولكن الإيمان الذي نشأنا عليه يجبرنا على تصديق الحقيقة التي نخافها، وفقدان هذا الرجل حقيقة ما زلنا نخافها حتى اليوم، نعم، اغتيل الرجل الذي كان يتكئ عليه الوطن، اغتيل رفيق الحريري، ولكنه لم يمت حتى الان، انه حيٌ في ارواحنا وفي وجداننا في ضمائرنا وفي قلوبنا، انه حي في ازقة بيروت وشوارعها وبنيانها واحجارها، حيٌ في المساجد والكنائس، وسيبقى كذلك الى الابد.

إقرأ أيضاً: بالتفاصيل: المخابرات السورية طلبت من الزرقاوي تبني اغتيال الشهيد رفيق الحريري

سنبقى انا وكل رفاقي ( وائل ونادين وسارة واحمد وحسن وخالد ومحمد وربيع وبلال وروان وسهام وكمال وجود ومازن وميرنا ووسام وسنان وناجي وإيلي وجورج وفادي وعلي وحيدر وغيرهم” والذين اعتز بهم ولكل منهم قصة مماثلة لقصتي، سنبقى على العهد والوفاء، وكما قلنا الامس نقول اليوم: “كلنا رفيق الحريري، ان أردتم قتله، عليكم أولاً ان تقتلوننا جميعاً، وان قتلتمونا، سيبقى رفيق الحريري حي في ضمائركم المعذبة”.
رحمك الله دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

السابق
«الأخبار» تصرف 16 موظفاً بينهم «نقولا ناصيف»
التالي
ولحزب الله في حلفائه شؤون