رفيق الحريري الثورة الهادئة

النائب السابق مصطفى علوش

إن كان رفيق الحريري حالماً، لكنه لم يكن يبني حلمه على أوهام، لقد كان متفائلاً بأن الصعوبات كلّها يمكن تسويتها بالتدرج وبالصبر وخلق الفرص المناسبة لحلّها دون خسائر كبرى للأطراف المعنية.

عندما أتى إلى الحكم سنة كان يعلم جزءاً من قواعد اللعبة في لبنان وتوازناتها الإقليمية. أتى والعالم كان قد دخل مرحلة جديدة بعد انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية، وبعد حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، والتي أدّت بمحصلتها العامة إلى إعادة توكيل سوريا حافظ الأسد بشؤون لبنان على أساس اتفاق الطائف. كان البلد مدمراً ومقسماً وسعر صرف العملة في الحضيض، من دون أي أفق سياسي أو اقتصادي، بمعنى أن لبنان كان عمليا دولة فاشلة بقيادة عاجزة.

لكن في الوقت ذاته كانت المنطقة في جو تسويات كبرى بعد مؤتمر السلام في مدريد سنة ، وهو الذي أعطى انطباعاً بأن حل قضية فلسطين أصبح قاب قوسين، وبالتالي فإن السلام بين الدول العربية وإسرائيل هو تحصيل حاصل.

أراد رفيق الحريري أن يدخل لبنان وسوريا في سباق مع عملية السلام لتمكين البلدين من استباق الهجوم الإسرائيلي العلمي والاقتصادي والمعلوماتي المتوقع عند إنجاز عملية السلام.

من هنا، فقد أراد تجاوز كل المعوقات والوقائع من خلال تسويات محلية هجينة على أمل بأن النمو الاقتصادي القادم سيتمكن من تغيير الواقع السياسي من خلال السوق الحر والخصخصة، مما سينتج ما سمّي «ترشيق القطاع العام» ودفع القطاع الخاص الى أخذ المبادرة وفتح آفاق الفرص للشباب الذين كان جزءٌ منهم قد أتم دراساته الجامعية على نفقة مؤسسة الحريري.

من اللحظة الأولى كان يعلم باستحالة إصلاح الحال في لبنان من دون استدراج نظام حافظ الأسد نحو مخطط فتح الأسواق والقبول بمنطق الاقتصاد الحر ولو تدريجياً، وكان قد طلب إعداد دراسة لتحويل سوريا بشكل تدريجي نحو «اقتصاد السوق الإشتراكي» عرضت على حافظ الأسد في أواخر ثمانينات القرن الماضي فوضعت طي النسيان رغم أن الرئيس الشهيد كان مستعدا لدعم هذا التحول بمليار دولار منه شخصياً.

كان رفيق الحريري يعتقد أن فتح السوق سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تطوير الواقع السياسي باتجاه المزيد من الحرية للمواطنين على مختلف المستويات. هذا ما كان أساس تفاؤله في إصلاح العلاقة غير السوية التي كانت تربط سوريا بلبنان على مدى عدّة عقود، كان همه نقل العلاقة من مستوى الوصاية والاحتلال إلى مستوى التكامل المصلحي والاقتصادي الذي يكسر الحدود دون حاجة للاحتلال العسكري.

قبل حافظ الأسد في تلك الفترة بالسماح بافتتاح مصارف خاصة في سوريا، كان للمصارف اللبنانية الدور الأهم في هذا النشاط.

لكن هذه الفلسفة التي تربط حرية الاقتصاد بالحرية السياسية لم تكن خافية على حافظ الأسد العالم طبعاً بهزالة الاقتصاد السوري الموجه والموبوء بالفساد والمحسوبية وضمور الإنتاج، ولكنه في الوقت نفسه كان واعياً أن حرية السوق المفتوحة ستؤدي حتماً إلى نشأة مراكز قوى جديدة على حساب الأمر الواقع الذي جعله رئيساً «إلى الأبد» على سوريا، وحاكماً مطلقاً على لبنان، وزعيماً مهماً يحلم بنيل مكانة جمال عبد الناصر.

من هنا، تسامح الأسد بشكل جزئي مع مساعي رفيق الحريري في سوريا، وترك له الحرية مع ضوابط محلية في لبنان كانت تعتمد على استمرار واقع تجييش مجموعات سياسية تابعة له لكبح جميع مشاريع رفيق الحريري الطموحة.

بين و ، تمكن رفيق الحريري من خطف فترة من السماح والإستقرار مكنته من تمرير مشاريع إنشاء البنية التحتية وشبكة الطرق والمواصلات ومشروع وسط بيروت على الرغم مما شابها من اعتوارات مالية كانت مفروضة من قبل قوى الأمر الواقع المحلية والإقليمية.

في تلك الفترة فشلت أولى محاولات إصلاح البنية الإدارية في الدولة بعد عملية طرد فاشلة لحوالى موظفاً بملفات فساد واضحة ومثبتة بضغط سياسي شرس من حرس النظام القديم وورثتهم الجدد الذين يعتبرون مؤسسات الدولة إقطاعيات مرصودة لهم في ظل شعارات براقة ومغرية عنوانها «الميثاقية» أو «التوازن الطائفي»، وهي التي تجعل كل راع مسؤولاً عن رعيته وقبيلته السياسية والمذهبية، فاسدة كانت أم سوية.

على المنوال نفسه، فشلت لاحقاً كل محاولات إصلاح الإدارات وتطويرها تحت شعارات حماية الأرزاق والطبقة العاملة من ظلم «الرأسمالية المتوحشة» التي كان يقصد بها مشروع رفيق الحريري.

في مناسبات عدة هدد بعض أركان الحكم في لبنان بالعودة إلى الحرب الأهلية إن لم تمرر لهم مشاريع فساد واضحة.

وهكذا أيضاً تمت مواجهة محاولات حظر الوكالات الحصرية على أساس أنها تضر بطائفة محددة، وحماية الفساد في بعض الصناديق من خلال تعميم فوائد هذا الفساد على شرائح واسعة من الناس حتى يشكلوا «حماية شعبية» لديمومته.

فشلت أيضاً أولى محاولات حصر استعمال السلاح بالدولة بعد رفض مشروع نشر الجيش في الجنوب، كما أن الرئيس الحريري اتهم بشتى أنواع النعوت لمحاولته تلك.

على الرغم من ذلك كله فقد تمكن لبنان من الدخول في عملية نمو اقتصادي سريعة رفعت الناتج القومي وحسنت أحوال الناس وأعادت الكهرباء بشكل دائم ورفعت مستوى الخدمات العامة.

بعد اعتداء «عناقيد الغضب» في نيسان ، وقبلها اغتيال «اسحق رابين»، تبين للجميع بأن عملية السلام أصبحت في خبر كان.

هنا دخل رفيق الحريري في مرحلة جديدة من المواجهة والبقية آتية.

() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=650818

(المستقبل)

 

السابق
الرئاسة في لبنان تُكتب بحبر «الاتفاق النووي»
التالي
أسرى «حزب الله» في حلب سيّاح!