زينب الطحان: الرواية الجديدة تسعى لخلخلة المفاهيم الراكدة

زينب طحان
نالت الزميلة زينب الطحان شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية بتقدير جيد جداً. وجاءت أطروحتها تحت عنوان "تحولات سردية في نماذج من الرواية اللبنانية: (إلياس خوري، علوية صبح، ربيع جابر 2000-2010) والتي طرحت علاقة التحولات السردية في الرواية اللبنانية في العقدين الأخيرين بفكر ما بعد الحداثة وفلسفتها التفكيكية مابعد البنيوية.

1- اخترت في بحثك لنيل الدكتوراه ثلاث روائيين لبنانيين بصفتهم شكلوا “قطيعة تاريخية بين مراحل الأدب العربي وتطوره قديماً وحديثاً”، وهناك شك حول استيعاب العرب لمرحلة الحداثة لكي ينتقلوا إلى ما بعدها. فكيف يمكن تفسير الإسلوب الروائي العربي الجديد؟ وهل يمكن اعتباره تقليدا أعمى بغرض الإنتشار ربما؟

اقرأ أيضاً: سنا الحاج: إهتمامي بالطفل المعوّق محاولة لتجسيد إنسانيتي أولاً

*نلاحظ في العقدين الأخيرين تحولات مهمة أصابت النص الروائي العربي المعاصر على المستويين البنيوي والفكري لا يمكن تجاوزها، أو نكرانها عند القراءة والتأويل, وقد أدّت العوامل الموضوعية والذاتية التاريخية والسياسية والاجتماعية والطبيعة الإجناسية للنص الروائي المنفتحة والمعقدة في آن واحد دوراً كبيراً في تحويل النمط الكتابي من المرحلة الكلاسيكية، والحديثة إلى المرحلة الجديدة في تاريخ الرواية العربية المعاصرة، بما يعكس التحولات الكبرى للمجتمعات العربية، والإنسان العربي، التي تأسست على إرهاصات الهزائم العربية والتي لا تزال مفاعيلها حاضرة، بل إنها تزداد تأزماً مع ما تشهده البلاد العربية من حروب دامية. فالحساسية الجديدة تشكلّ تياراً عارماً في الرواية العربية بعد هيمنة الرواية الواقعية في منتصف القرن الماضي، لكن أهمّ ما يميز رواد الرواية الجديدة هذه هو سعيها الحثيث إلى ضرب وهمِ المؤسَّسِية، وخلخلة المفاهيم الراكدة في الإبداع، إذ غدت الكتابة الإبداعية اختراقاً لا تقليداً، إثارة للسؤال لا تقديماً للأجوبة، ومهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان. فأخذت هذه المقاربات تتلقّف شيفرات التغايرات الإجناسية الناجمة عن التغير المفاجئ في منظومة الأنظمة المعرفية في العالم، التي جلبت التغيّر إلى القص والسرد. فظهرت بنى قصصية وسردية مغايرة، اتجهت نحو كسر الأنماط الحديثة السائدة بقوة الاختلاف معها بطرائق ما بعد الحداثة. وذلك بزعزعة الواقع بالتخييل. فبعد ثلاث مراحل مرّت بها الرواية اللبنانية، تعيش تطوراً تواكب فيه تطورات الرواية العربية عموماً، إذ عايشت المتغيرات المحلية والعالمية في المناحي الثقافية والاجتماعية والإنسانية والتاريخية. من هنا كان اختياري لثلاث روايات تمثّل هذا الخط التحولي في رواية “كأنها نائمة”لألياس خوري؛ و”مريم الحكايا”لعلوية صبح، و”أميركا” لربيع جابر.

زينب طحان

2- اتصف الادب العربي بالجفاء والموعظة غالبا الى ان جاء نجيب محفوظ واخرجه الى طوره الإنساني الأشمل، وربما لهذا نال جائزة نوبل. فمن هو الروائي اللبناني الذي يمكن اعتباره مثيلا لمحفوظ؟

*نعم، مثّل الروائي العربي الكبير المصري نجيب محفوظ مرحلة فاصلة في الرواية العربية عموماً، ولا يزال استاذاً ملهما للعديد من الروائيين العرب. تميّزت رواياته بالمنحى الواقعي، وكان أبا روحيا للرواية الحديثة العربية كون روايته “أولاد حارتنا” التي نال عليها الجائزة أدّت إلى تحوّل كبير في الرؤى مابعد الحداثية التي تدعو إلى هدم الإيديولوجيات الكبرى. فقد رأى فيها النقّاد تطاولا على الذات الإلهية في سرد فلسفي صوّر فيه الله كائناً فوضوياً غير عادل في إدارة شؤون عباده. أما من يمكن أن نعدّه شبيهاً بنجيب محفوظ في الرواية اللبنانية، فالأمر لا يمكن أن نحتسبه بهذه الطريقة، وذلك لأن الرواية اللبنانية لا يمكنها الانفصال عن خط الرواية العربية عامة، والتي تعد الرواية المصرية الرائدة الأولى فيها، والتغيير الذي يطرأ على مسار الرواية عادة يتناقله كل الرواة على اختلاف جنسياتهم. ومن ثمّ الرواية اللبنانية بدأت متأخرة تاريخيا عن مثيلاتها العربية، وهي حديثاً بدأت تخرج من شرنقة رواية الحرب الأهلية التي عاشها لبنان لتنطلق إلى أفق أرحب. قد يمكننا القول إن إلياس خوري ورشيد الضعيف يمثّلان الخط الأقوى في هذا الاتجاه.

3- تاهت الرواية اللبنانية الحديثة في كتابات الحرب الأهلية طويلا، ولازال الكتّاب الشباب يغوصون فيها اضافة الى الشعر والسينما والمسرح وغيرها. هل يمكن ان نقول ان ذلك أمرا صحيّا؟ ام ان الروائي اللبناني لا يملك في بيئته غير هذه الحبائك ليشتغل عليها ولتكون معبرا للترجمات؟

*الرواية في لبنان، وإن كانت تتشاطر مع مصر نتائج الهزائم العربية مع الكيان الصهيوني، ونضيف إليها ما أسسته الحرب اللبنانية الأهلية من رؤى متشظية للهوية اللبنانية، ولكن يسبقها الاختلالات الاجتماعية والثقافية لما قبل الحرب، والتي بدورها أسّست لجيل من الروائيين توقف عند حال البؤس في المجتمع اللبناني في ظل السيطرة التركية العثمانية، وما ساهم به الاستعماركتاب مريم الحكايا الفرنسي عندما صاغ هوية جديدة للبنان الكبير، وما رافقها من ازدواجية في الرؤية للذات اللبنانية وهويتها، عكست أزمة المثقفين مع هوياتهم المتناقضة، فأتى التاريخ الأدبي اللبناني الروائي، مجسّداً لمرجعه الاجتماعي-الثقافي، وإن كان هذا التجسيد قد عكس نخبوية الرؤى الكامنة خلفه. غير أن الطابع الرؤيوي الاستشرافي للنصوص يشفع لها لكونها تنبأت بالحرب حيناً، وكشفت ما هو مستور ومغيّب حيناً أخر، وصولاً إلى ما رسخّته الحرب الأهلية من شرذمة ومتاهة كبيرة إزاء هذا الواقع، وما حملته من موروث اجتماعي ثقافي مخلٍ بهذه البنية الهوياتية. فكانت النظرة الروائية للحرب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخصائص الرواية اللبنانية غبر المنفصلة عن هذا الصراع الذي طغت فيه الإيديولوجيا الطائفية في الساحة الثقافية بصفتها المحرّك البارز للمجابهات الاجتماعية الفئوية ولأشكال متدنية من الوعي.

4-هل الادب يمكن أن يُصنف، فنقول: أدب عربي، أدب اسلامي، أدب لاتيني، أدب غربي؟

*الأدب لغة إنسانية في المستوى الأول والأخير، ولقد عرّف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الأدب بأنه”فن جميل يتوسل بلغة”. من هنا الأدب لا يمكن أن تطلق عليه تلك التصنفيات الإيديولوجية أو الاعتباطية التي يسوّغها أصحاب اتجاه معين لفلسفة دينية أو وضعية، لا يمكن أن نقول أدب إسلامي، أدب مسيحي، بل إن الأدب يحوي في كل طياته وطرائقه كل الموضوعات والقضايا التي تعيشها الشرائح الإنسانية على اختلاف انتمائها الطبقي والديني والجغرافي والهوياتي الخاص بها. وما محاولة العلماء والنقاد قديما لتصنيف أنواع الأدب إلا من باب التميز الانتمائي للجهة الثقافية التي تنتجه. ويبقى التمايز قائما من جهة المعالجة والطرح والبنى الفلسفية في قول الخطاب والسرد. ويبقى أن تطرح مسألة أخرى هي إشكالية لم يتم حسمها متى يكون الأدب ملتزما وهادفاً؟!. فالتسميات مثل “أدب إسلامي” يدخله في نطاق ضيق منحصرا بفئة محددة من البشر، في حين أن الأدب لطالما كان حالا إنسانية تنطلق من الفطرة دون تمييز.

5-الرواية والقصة والشعر فن عالمي يكتسح جميع البيئات.. أهو سلعة تنتقل كانتقال التقانة أم انها ابنة بيئتها برأيك؟ومن من الروائيين العرب يمكن اعتباره ناقل صور هذا المجتمع العربي المختلط ما بين التخلف والتحديث الظاهري والتقني؟

*ليس صحيحا ما تقولينه حول هذا الاكتساح، بل هو حال موجودة دوما عبر التاريخ وفي كل المجتمعات التي أسست لنفسها حضارتها وفلسفتها، قد تخبو وتقوى بين مجتمع وأخر بسبب ظروف موضوعية يمر بها. وبالطبع كل فن وأدب هو يتميز بخصائص بيئته التي تنتجه، وهو بطبيعة الحال ناقل ومعبر عن قضايا هذا المجتمع برؤى مختلفة وقوالب مغايرة بين أديب وفنان وأخر. غير أن القدرة على التعبير ومدى إجادتها هي التي تبقى المعاير النقدي الذي تجري حوله عملية التقويم ومدى تحقق الإفادة منه لأبناء المجتمع. ومن هنا قد نجد مجتمعات حديثة تسعى إلى تأسيس أدب من منظورها الخاص، مثلما هي الحال حاليا مع المجتمع الإسلامي الحديث النشوء في إيران، حيث السعي حثيث لإنتاج أدب يعبر عن ثقافته وإيديولوجيته الخاصة، وهنا لا يمكن تسميته أدبا إسلاميا، بل هو أدب في طور التشكل والتمظهر.

اقرأ أيضاً: محمد العبدالله شاعر الحياة بمرارة وسخرية

6- هل الادب النسوي اللبناني، ممثلا كنموذج بالروائيّة علوية صبح، التي بنيت عليها دراستك الاكاديمية هذه، قد نقل وحكى عن نساء لبنان بشكل واضح؟ ام انه اعطى صورة مغايرة عنهن؟

*في الحقيقة مسألة مصطلح “الأدب النسوي” أو “الرواية النسوية”، لا يزال الجدل دائرا حوله، ولست من اللواتي يقتنعن بهذا المصطلح، إنما اضطررت لاستخدامه نظرا لبعض الدراسات التي تتبناه، لأني أردت طرحه من زاوية النقد وليس التبنيّ. وهو مصطلح نشأ مع تطور الحركة النسوية في الغرب، وانتقل بعد عقود إلى العالم العربي. ولبنان بطبيعة الحال واحدا منها. حاولت الروائية “علوية صبح” أن تمثّل الإتجاه النسوي في الرواية الذي ينقل قضايا المرأة وإشكالياتها. وهو مصطلح يسيء للأدب الذي تكتبه المرأة وكأنه من عالم آخر، أو كأنها دخلت حديثا على عالم الأدب وهذا غير صحيح مطلقا. لقد أريد لهذا المصطلح أن يتبنى الرؤية الغربية بالنظر إلى قضايا المرأة وما يعوّقها عن التقدم في العالم العربي متهما الدين الإسلامي والقيم الشرقية بشكل كلي، داعيا إلى تقويض عالم القيم الثقافية التي تحكم الشرق عموما تحت غطاء الحداثة وما بعد الحداثة، في مقولة تحصر معاناة المرأة في الحرية الجنسية. في حين أن المرأة/الإنسان لا تزال تعاني في كل المجتمعات من التعرض لحقوقها وسلبها حريتها بشكل أو بآخر. و”علوية صبح” تنهي رواياتها دوما على أفق مغلق يضع كل المسؤولية في تخلّف المرأة على السلطة الذكورية أو الأبوية متناسيّة أن المرأة نفسها يجب أن تسعى لتدمر كل الجدارن المتحجّرة أمام تقدّمها في المجتمع العربي تحديدا.

السابق
استنفار أمني في الضاحية… و واقع إقليمي متأزم!
التالي
عن إرهابية تنظيم «حزب الله»… والملف السعودي لمجلس الأمن!