ما هي خصائص الدولة وما هي وظيفة المجتمع؟

وجيه قانصو
تناولت الجلسة الثانية من الندوة التي نظمتها مجلة "شؤون جنوبية" في منتدى صور الثقافي، "دور الشيعة في بناء مستقبل الدولة"، وتحدث فيها الدكتور وجيه قانصو عن خصائص الدولة والديمقراطية في النظام اللبناني إضافةً إلى الموانع والمعوقات.

وهذا ما جاء في محاضرة الدكتور قانصو:

عنوان الخيارات الاستراتيجية يعني أنني لن أقدم تحليلاً سياسياً لظرف راهن، بل قراءة المشهد بامتداداته الزمنية غير القصيرة، سواء في ماضيه، أو مستقبله، أي الاطلاع على محركات المشهد وبواعثه ومحدداته. وعنوان الشيعة يعني أن نقرأ المشهد من داخل مكون ثقافي واجتماعي محدد، بما يتعلق بخيارات هذا المكون وما يتصل مع محيطه الاجتماعي والسياسي، خاصة فيما يتعلق بخيار الدولة.

اقرأ أيضاً: د. أنطوان حدّاد في ندوة «شؤون جنوبية» يحدد الاعطال في النظام اللبناني

ولكي لا يكون مفهوم الدولة ملتبساً أو نسبياً، لا بد من وضع نقطة مرجع تتعلق بخصائص الحد الأدنى للدولة الحديثة، هي خصائص لا تقوم الدولة من دون أحدها، وهي باختصار:

السيادة، تترجم بأن الدولة صاحبة الحق الحصري في تشريع القانون وتعديله وتطبيقه بشتى الوسائل، بما في ذلك وسائل الإكراه. هذه الخاصية لا تحدد العلاقة مع الدول الأخرى فقط، بحيث لا تملك أية دولة أن تمارس سيادتها فوق أرض وعلى شعب دولة أخرى، بل هي خاصية داخلية أيضاً، هدفها التمييز بين الكائن السياسي الأعلى الذي تنحصر به مهمة التصدي للشأن العام، وبين المكونات الاجتماعية الأخرى، التي كانت تاريخياً تنافس الدولة مهامها، مثل الكنيسة والإقطاع وطبقة النبلاء، وهي مكونات كانت تتمتع باستقلالية سيادية داخل مجالها، تمنع الدولة من ممارسة مهامها على كامل اراضيها. التمييز بين الدولة ككائن أعلى، وبين مكونات المجتمع الأخرى التي تمارس أنواع نشاط أخرى، يجعل الدولة تخرج من المجتمع بالمعنى الوظيفي، فلا تعود هي نفسها مؤسسة اجتماعية، ولا يحق لها مصادرة نشاط المجتمع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لأن ذلك يصبح من اختصاص الناس، ولا يحق لأية جهة اجتماعية ممارسة تشريع القانون وتطبيقه، أو ممارسة أي نوع من أنواع الإكراه، لأن ممارسته خارج الدولة يصبح اعتداءاً وجرماً قانونياً تحاسب عليه الدولة، لأنه يعتبر اعتداءاً مباشراً على سيادتها.

القانون، أي إن الدولة الحديثة تمارس مهامها على أساس مرجعية نصّ مدون، من دستور وقانون وقواعد إجراءات، يقوم على مبدأ الحقوق الإنسانية غير القابلة للانتزاع من قبل أحد. أي إن الدولة سلطة مقيدة وليست مطلقة، رغم سيادتها على جميع مكونات المجتمع الأخرى.

الدولة مؤسسة معنوية

مؤسسة معنوية، أي هي دولة غير مشخصنة، وهذا يجسد الجانب العقلاني في الدولة، على أساس أن القرار فيها ليس استنسابياً أو مزاجياً بل تراعي فيه منطلقات عقلانية، مثل المصلحة والجدوى والتقديرات الدقيقة القائمة على دراسات متخصصة، وتكون آليات اتخاذ القرار فيها وتنفيذه مستندة إلى قواعد وتراتبيات داخلية، الاساس فيها الفاعلية والاحتراف والتخصص. هذه الخاصية تسببت بالفصل بين الدولة، ككائن معنوي وبين الأشخاص الذين يمارسون مهام الدولة، فالدولة تبقى والأشخاص يذهبون، الدولة لا تحتاج إلى مسوغ لممارسة مهامها، لأن سيادتها ذاتية، في حين أن الاشخاص بحاجة إلى مسوغ قانوني ودستوي لممارسة فعل عام، ويكون فعلهم ملزماً ونافذاً.

الديمقراطية القائمة على التمثيل، فلا تعود الديمقراطية مجرد حكم الأكثرية للاقلية، فهذا لا مكان له في قاموس الديمقراطية الحديثة بعد أن أصبحت خاضعة لمعيار التمثيل الصحيح والشفاف والفعلي لأفراد المجمتمع. معيار التمثيل، أصبح بمثابة المسوغ الشرعي الوحيد لممارسة السلطة، على أساس أن المجتمع هو الجهة الوحيدة التي تسبغ المشروعية لاية جهة رسمية في ممارسة مهامها العامة.

أما الحديث عن دور الشيعة المستقبلي في بناء الدولة، فهو عنوان مستوحى من تداول منتشر في لبنان، حول صعوبة انخراط الشيعة في الدولة، وتشكل ما يسمى بشيعية سياسية باتت المعوق الأكبر لبناء الدولة والمانع الأول في ممارسة مهامها بفعالية.

معوّقات وموانع

هذا الادعاء يفرض التحدث في ثلاث نقاط رئيسية:

الأولى: أن معضلة الدولة في لبنان هي معضلة مزمنة منذ صياغة النظام اللبناني على أساس طائفي. ما جعل النظام يحمل تناقضاته من داخله، وقيامه على ما ينفي مرجعية الدولة النهائية. فالطائفية حولت الطوائف بصفتها مكونات اجتماعية وثقافية إلى هيكليات سياسية ذات استقلالية خاصة بها، بحيث اعتبر التدخل في شؤون الطائفة الخاص هتكاً للعيش المشترك. فالدستور أقر للطائفة بحق التعليم الديني، وتنظيم شؤون الأحوال الشخصية التي تتوسع فوق مساحة واسعة من نشاط الافراد والجماعات. هذا الأمر ولد شبكة مصالح داخل الطائفة وتراتبيات ومرجعيات لا ينص عليه القانون، وظهور أشكال استبداد داخلية لا يطالها القانون بحكم أن كل ذلك من شؤون الطائفة الخاصة.

ندوة شؤون جنوبية صور

كان هاجس الشيعة في فترة ما قبل الحرب الأهلية في لبنان، بحكم التهميش الذي عانوا منه، في المناطق وفعلية وإقصاءه عن المشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي، كان الهاجس هو الاعتراف بهم مكوناً أساسياً، ما غلب على خطاب الفاعليات الشيعية لغة الاحتجاج على غياب العدالة في توزيع موارد الدولة، وعدم التوازن أو التناسب في تمثل السلطة وممارستها. كل ذلك، إضافة إلى تقصير الدولة في القيام بمهامها إزاء الانتهاكات الإسرائيلية، تسبب بوجود حالة تجاف بين الدولة وبين الواقع الشيعي المهمل، وولد مناطق فراغ بين الفرد-الشيعي والدولة، عمدت جهات خارجية إلى ملئِه.

اقرأ أيضاً: الدكتور ملحم شاوول: مفهوم المواطنة ارتبط بظهور الحداثة

ورغم كل ذلك، فقد كان هاجس القيادة الدينية آنذاك، الممثلة بالسيد موسى الصدر، الذي أصبح ايضاً قيادة سياسية رمزية، هو انخراط الشيعة في الدولة، واعتبارها خياراً استراتيجيا لهم، ومرجعية حصرية لمصالحهم وأمنهم وهويتهم. وهو أفق استكمله الشيخ شمس الدين، وأصل له تأصيلاً دينياً يقوم على أن السياسة شأن مدني، وأن السياسة صناعة مجتمع متعدد الثقافات والمذاهب. فما يصدر عن المجتمع مراعياً لمصالحه وميوله يكون شرعياً، وهو ما عبر عنه بولاية الأمة على نفسها، والتي تعني عملياً خروج المؤسسة الدينية عن صلاحيتها في منح أو عدم منح السلطة شرعيتها بعدما باتت الشرعية أمراً مجتمعياً مدنياً لا أمراً قدسياً. باتت المؤسسة الدينية وفق هذا المنظور خارجة تخصصاً بحسب تعبير الفقهاء.

(يتبع)

السابق
ماذا قال السياسيون في عملية التبادل
التالي
غارديان: قتال «داعش» ليس كافيا