الدكتور ملحم شاوول: مفهوم المواطنة ارتبط بظهور الحداثة

في الجلسة الأولى في ندوة "إشكالية الهوية المركبة في لبنان" التي نظمتها مجلة "شؤون جنوبية" في منتدى صور الثقافي تناول الدكتور ملحم شاوول مفهوم المواطنة من زاويتين، الأولى نشوء هذا المفهوم في سياق التجربة الغربية، والثانية عن مفهوم المواطنة في لبنان.

تنبع الحاجة إلى متابعة نشوء وتطور مفهوم المواطنة في المجتمعات الغربية من موقف بعض البحاثة والمنظرين في البلدان العربية الذين يتعاملون مع هذا المفهوم بصفته المنجزة. الإشكالية بالنسبة إلينا تكمن في نظرة هؤلاء البحاثة والمثقفين العرب واللبنانيين إلى التاريخ والسيرورة المجتمعية الغربيين، نظرة يمكن وصفها بالمنمطة الموسومة بيانيا. لقد تأثرت هذه النظرة وما زالت بالقراءة المادية لهذا التاريخ مستوحاة إلى حدّ كبير من القراءة الماركسية التي رأت أن هذا التاريخ ما هو إلا تاريخ تحرر من القهر الإقطاعي والظلمة الدينية للقرون الوسطى إلى رحاب التنوير والعقلانية والحداثة والتقدم.

اقرأ أيضاً: د. أنطوان حدّاد في ندوة «شؤون جنوبية» يحدد الاعطال في النظام اللبناني

من هنا يكمن السؤال الهام جداً حول الحداثة لفهم كيف وصل الغرب إلى صياغة مفهوم المواطن والمواطنة: هل الحداثة بوصفها حركة تاريخية هي نتيجة نمو القاعدة التحتية للاقتصاد الرأسمالي وبناه التحتية، كما يحلو للقراءة المادية أن تقرر كما أسلفنا أعلاه، أم أن الحداثة هي نتاج ثورة ذهنية ثقافية انبثق منها التنطيم الرأسمالي؟ لنتذكر ماكس فيبر ودراسته حول “الأخلاق البروتستانتية و روحية الرأسمالية” [1]

L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme

على صعيد البناء السياسيً تمثل ببناء كيانات سياسية محددة ذات هوية قومية واضحة سوف تشكل دون شك حاضنًا رئيسيًا لمفهوم المواطنة الغربي.

اتسمت هذه الكيانات التي أسميها الدول/الممالك التي أصبحت لاحقاً دولاً قومية بثلاثة خصائص:

– المركزية: منذ القرن الخامس عشر، بدأت السلطات الملكية في فرنسا(ريشوليو Richelieu) و بريطانيا العظمى (أليزابت الأولى) و إسبانيا (فيليبس الثاني) بناء إدارات و أجهزة قضائية وتربوية (مدارس ومعاهد تعلم باللغة الوطنية و تتخلى عن اللاتينية لغة للتعليم)، تابعة مباشرة للحكومة الملكية وللسلطات المركزية، تتخطى سلطات الإقطاع المحلي والسلطات الدينية. فبات الرعايا (les sujets ) يخضعون تدريجاً للأتظمة الإدارية والقضائية ذاتها.

– تجانس المجتمع: يفترض التجانس المجتمعي القضاء على المراتب الموروثة وإيجاد أكبر عدد ممكن من الخصائص المشتركة داخل الكيان الواحد.

– الهوية القومية: من هنا، سوف تقوم “هوية” جديدة إلى جانب الهوية الدينية الوحيدة المعترف بها في القرون الوسطى، هي الهوية القومية الثقافية والتي سوف تكون الحاضنة للمواطنة المحددة الانتماء على أنقاض “المرعي” التابع للملك.

المعادلة الهامة التي نستنتجها من هذا العرض هي في تلازم قيام مفهوم المواطنة الغربية مع مفهوم الدولة الحديثة التي يحددها فيبر ” أنها مؤسسة سياسية لها دستورها المكتوب ونظام حقوقي وضعي وعقلاني وإدارة تعمل وفق قواعد عقلانية وموظفون يعملون بكفائة عالية”[2].

وخلاصة القول هو تعدد منابع المواطنة وتنوع أصولها في سياق التجارب الإصلاحية الدينية أحياناً وضدها أحياناً أخرى وفي أزمنة اجتماعية وتاريخية متفاوتة لا تحدد بنموذج أو بنمط جاهز للتطبيق. فهذا المفهوم الجاهز كما وصل إلينا، يحلو للكثير من البحاثة والمثقفين والناشطين في شؤون الشأن العام.

المجتمع اللبناني ومقاربة مفهوم المواطنة

عندما تبلور المشروع السياسي اللبناني بعد الحرب العالمية الأولى، كان الموروث الإمبراطوري العثماني يشكل السمة الدامغة للاجتماع اللبناني ومباني إدراكاته السياسية على الصعيد الماكرو سياسي كما على صعيد السلطات الصغرى. لكن ما إن وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي وأعلنت دولة لبنان الكبير حتى تنامت صياغات سياسية تنتمي كلها روحاً ونصاً بوجه الإجمال إلى السيرورة التي ولدت الجمهورية الدستورية ودولة القانون وصيغة المواطنة كما وصلت اليها التجربة الأكثر خصوصية واستثناءً من بين التجارب الأوروبية ألا وهي التجربة الفرنسية. فكيف تبدو صيغة المجتمع والدولة في لبنان بعد هذه “الخلطة”؟

1. تذكير بالسمات المسيطرة في المجتمع اللبناني.

أن المجتمع اللبناني مبني على سيبة مثلثة الأضلع هي الطوائف والمناطق والعائلات. وحسب كل أزمة وكل ظرف يختلف ترتيب أولوية وفاعلية كل ضلع من الأضلع الثلاثة. ومن الواضح أن منذ حروب لبنان انطلاقاً من عام 1975 يتعاظم الدور المحدد للدينامية المتشابكة للعاملين الطائفي والمناطقي.

ما هي الطائفة وكيف يعمل النظام الطائفي؟

الطائفة والنظام الطائفي من أهم موروثات الحقبة العثمانية. وتتحدد الطائفة الدينية بأنها جماعة متلاقية حول معتقد ديني مشترك وتمارس الطقوس وتحترم الرموز التي تتماهى مع هذا المعتقد الديني المشترك وتساهم في المحافظة عليه. يؤطر الطائفة أجهزة دينيّة ومدنيّة اكتسبت خلال الحقبات التاريخية شرعية القيادة وممارسة النفوذ، مع العلم أن دور وأوضاع الأجهزة الدينيّة والمدنيّة يختلف من طائفة إلى أخرى في لبنان. المهمّ و الأساسي هو أن الطائفة الدينية لها دور ديني ودنيوي تلعبهما في نفس الوقت. أبرز أشكال الدور الدنيوي هو وجود أجهزة قضائية لدى الطوائف تقرر مصير المواطنين في مجال الأحوال الشخصية، كما تدير الطوائف المختلفة مؤسسات مدنية من مدارس وجامعات ومستشفيات وهيئات خيرية تؤمن الخدمات الاجتماعية والرعاية لأفراد الطائفة.

على الصعيد السياسي، تؤطر الطوائف نُخب، منها التقليدية ومنها التي تنتمي إلى أحزاب ذات “واجهة حديثة”. هذه النخب السياسية تتمتع بدرجة من النفوذ الواسع داخل الطائفة التي تنتمي إليها وتصبح هي المسؤولة عن التخطيط لدور الطائفة برمتها حيال الدولة والنظام السياسي وتضع استراتيجية المشاركة ومنسوبها حسب الحصص المحددة دستورياً. ولا يمكن أن ننسى أن الطوائف في لبنان تمتلك ثروات اقتصادية ومالية وعقارية تسمح لها بتنفيذ مشاريعها ومخطّطاتها.

وإلى الأشكال الاجتماعية المغلقة طائفياً هناك الأبعاد الجغرافية والمناطقية، فنلاحظ أيضاً أن للمكان، للفضاء الجغرافي اللبناني، هويته وتمايزه. إن الأمكنة في لبنان والمناطق اللبنانية مثقلة في ارتباطها بهوية طائفية أو بعدد محدد من الهويات تشكل ضمن منطقة واحدة، مجالات ثانوية ضمن الكل. وأي تعديل في تركيبة الفضاء الجغرافي القائم على تطابق الهويتين الطائفية والمكانية انما هو تأجيج للصراع الاجتماعي ووضعه في مسار صراع حاد على السيطرة على الأمكنة والفضاءات وبالتالي الصراع على السلطة وبالنهاية على شكل النظام السياسي.

يضع الدستور اللبناني موضع التنفيذ فكرة جمهورية برلمانية تفصل بين السلطات وتنشىء مجلساً نيابياً لمدة محددة له حق المراقبة على الحكومة التي لا تحكم إلاً بثقته. ويضع الدستور السلطة الإجرائية بيد حكومة تمارس سلطتها مباشرة على جميع الأجهزة الإدارية، المدنية منها والعسكرية والأمنية. أما رئيس جمهورية فهو منتخب من قبل هذا المجلس ولا يملك سلطة مباشرة على الإدارة العامة ولا على القوات المسلحة ولا على القضاء بعد تعديل 1990. يقرّ الدستور أبضاً ويكفل المساواة أمام القانون والحريات العامة الأساسية وحقوق الأشخاص وحرياتهم. ويزكي الدستور اللبناني المبادرة الفردية والنظام الحرّ في المجال الاقتصادي.

ندوة شؤون جنوبية صور

إن الدستور اللبناني هو إذن، بوجهه العام، دستور جمهوري ديمقراطي ليبرالي، يميل في نصوصه إلى العمومية والتجرد والديمومة.

La loi est abstraite, générale et permanente.

مواطنة ذات هندسة متعددة الأبعاد

بناء على ما تقدم كبف يمكن أن نلمس تحديداً للمواطنة في لبنان؟

لا بد من الملاحظة أولاً أن هناك تيارت وتوجهات لا تستسيغ ولا تتقبل حالة الهجانة كحالة بنيوية في المجتمع وفي الإدراكات الذهنية اللبنانية. رفض الواقع الهجين يعني عملياً التوجه نحو التجانس الاندماجي من خلال نموذج من النماذج الغربية التي عرضناها في مطلع هذا النصّ أي تبني المنتج النهائي لمسار المواطنة الغربية على شكل المواطنة في دولة القانون المنجزة ذات البعد الحقوقي بين الفرد المواطن والدولة. التجربة اللبنانية تدل على استحالة هذا الخيار بسبب “عمق الموروث العثماني” وتجذّره في البنى الذهنية اللبنانية من ناحية وضعف استبطان الذهنية والثقافة الحقوقية الغربيتين من جهة ثانية إذ، لا يكفي إصدار قانون من هنا و”خلق شروط موضوعية” من هناك لإحداث التغير المنشود.

لدينا في النصوص القائمة والمتفق عليها اقتراحات يمكن البناء عليها لإطلاق مسار مواطني جديد في لبنان:

– على صعيد الدولة ومؤسساتها فكرة مجلس نيابي عير طائفي منتخب وفق منطق النسبية فكرة مطلوبة على المدى البعيد وهدف الحالة المثلى.

– لا بد من إنشاء مجلس الشيوخ على المدى البعيد منتخب غلى أساس طائفي مغلق لكل طائفة. يصار من ثم تحديد دوره وضلاحياته وعلاقاته بالمجلس النيابي وبالسلطة الإجرائية.

– لا بد أيضاً من التفكير ملياً بأهمية وضع موضع التنفيذ اللامركرية الإدارية والإنمائية التي ترد على حاجة الانتماء المناطقي في لبنان.

واضح أن ضمن الذهنية السائدة حالياً يتعامل المركز وكأنه الطرف الفاعل الأساسي في العملية الأنمائية أي أنه:

أ. مصدر المعرفة الوحيد بالحاجات والأولويات، ب: مصدر الوحيد بالتمويل وتوزيع الاعتمادات، ج: المصدر الوحيد الذي يملك الأجهزة الإدارية القادرة على تنفيذ مشاريع التنمية.

اقرأ أيضاً: الخيارات السياسية الاستراتيجية في ضوء إشكاليّة الهويّة (لبنان نموذجاً)

فلا بد من الإقلاع عن الذهنية المركزية و النظر إلى أي فكرة إنمائية محلية على أنها “مشروع تقسيمي” أو مشروع “إنعزالي”. على العكس، إعطاء صلاحيات للهيئات والفعاليات المحلية والقطاعية لتكون هي مصدر الدراسات الأول أي مصدر تحديد حاجاتها وأولوياتها. وأن تكون هي أيضاً مصدر التقدير أولي للتكاليف.

السابق
السعودي: مكبّ بلدية صيدا سوف يتحوّل الى حديقة عامة
التالي
بوتين يبدأ بالانتقام.. الواردات الزراعية التركية لا تستوفي الشروط الروسية!