عن شجاعة أهل الضاحية وسذاجة أهل باريس

تفجير باريس
طالعنا أحد أشاوس إعلام الممانعة بمقارنة "عميقة" بين ردّات الفعل التي لحقت بعد تفجيري الإجرام اللذين حدثا في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي باريس الفرنسية.

طبعاً كانت المفاضلة عنده لصالح أهلنا في الضاحية الجنوبية الذين وبعد كل تفجير، لا يكتفون بالصراخ والعويل والمطالبة من القوى الأمنية بالعمل على منع مثل هذه الإعتداءات، وإنما هم لا يتوانون رغم الجراح والآلام وفي لحظة الوجع أن يعلنوا موقفهم الداعم لخيار “المقاومة” وإصرارهم رغم الفجيعة على تمسكهم بهذا الخيار وما يمكن أن يدفعوه بالمقابل من أثمان، هم يعرفون مسبقاً أنّهم سيدفعونها، وهذا بحسب ادعاء صاحبنا، ما يقودهم لأن يردّدوا وبأصوات عالية: “كلنا فدا المقاومة” فيما في المقلب الآخر من حكاية الدم يجد صاحبنا أنّ أهل باريس “يا حرااام” لا يتمتعون بهذه المناقب، وبالتالي فإنّ حالهم بعد الفجيعة التي ألّمت بهم تكاد تثير الشفقة، فلا نراهم يصرخون لا بصوت مرتفع ولا بصوت خافت: “كلنا فدا الحكومة وخياراتها، ولا حتى فدا أيّ احد”!

اقرأ أيضاً: مين هيّ ضاحية بيروت الجنوبية وشو تاريخها؟ (1)

هذه النتيجة الطبيعية التي أفضت لها عملية المقارنة، وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه تنقصها بعد المقدمات الضرورية التي يجب أن تجد نوعاً من التطابق بين الحالتين وبين الموضوعين كي يصحّ على ضوئها التسليم بالنتيجة، وإلاّ فإنّ الأمر لا يعدو أكثر من ترف إعلامي يخدم بروباغندا لا تقدم ولا تأخر.

تفجير برج البراجنة

ففي الضاحية مثلاً تُخيّم الثقافة الدينية التي يتفرع عنها التسليم بسلطة الولي الفقيه الذي خياره إنّما هو خيار الله، وبالتالي فلا مجال ولا إمكانية ولا مندوحة للنقاش أو إعمال العقل، لا بأصل الخيار ولا بالنتائج المترتبة عليه، فيما أهالي باريس إنما يعتبرون بأنّ أولياء أمورهم ما هم إلاّ بشر أمثالنا يصيبون ويخطئون، وبالتالي فقد يذهب العقل الباريسي “القاصر” إلى امكانية محاسبة من هم في موقع القرار بمجرد أن يشعروا بأنّ خياراتهم السياسية يمكن أن تستجلب لهم المصائب والموت.

في الضاحية الجنوبية يعتبر أهلنا هناك أنّ الموت الذي يسببه الإرهاب أو غيره إنّما هو وسيلة سريعة لنيل الشهادة والوصول عبرها إلى الجنة، وبالتالي يمكن أن يشكّل لهم سبباً للخلاص ممّا هم فيه من حياة تعيسة وما هم عليه من بؤس وفقر و(شحار وتعتير)، فيما أهل باريس يعتبرون أنفسهم أنّهم يعيشون في الجنة التي صنعوها بأيديهم وبالتالي فإنّ الموت عندهم يشكل خسارة كبيرة لما في أيديهم …

في الضاحية لا يشعر ابن الضاحية كما في كل ضواحي ومدن هذا الشرق بأنّه يتاح له أيّ إمكانية تغيير أو حتى إمكانية مساءلة حقيقية وبالتالي فإنّ الخيارات التي يحملها ويحمل تبعاتها إنّما أسقطت عليه كالقدر المبرم، وأقصى ما يمكن أن يفعله باتجاهها هو التحمّل والتعايش معها، فيما أهالي باريس (كما يشير صاحبنا في مقالته) هم أصحاب الخيار الحقيقي، وباستطاعتهم هم أن يكون لهم كلمة الفصل فيها، وبالتالي فإنّ هذا الصمت الذي نسمعه وسمعه أخونا الممانع إنّما هو بسبب إعادة الحسابات والتدقيق بصحة الخيار من عدمه ليؤخذ بعده الموقف على مقتضاه.

انفجار باريس

قبل الختام لا أظّن أنّه يغيب عن بال صاحبنا بأنّ منظومة المصالح الشخصية والجماعية عند أهل الضاحية وكل الضواحي عندنا إنّما هي مرتبطة ارتباطاً عضوياً، لا فكاك له عن قبولهم بالخيارات الموجودة أمامهم، وبأنّ أيّ اعتراض عليها إنّما يهدد بشكل مباشر وفوري مصلحة المعترض وتهدده بلقمة عيشه أو بطبابة أولاده أو حتى بحياته، فيما أهالي باريس “التعساء” فإنّ نظامهم الديمقراطي “اللعين” يضمن لهم هامشا واسعا جداً من الحرية بدون أن يمسّ ولو مثقال ذرّة مروحة مصالحهم أو أن تتأثر حتى…

اقرأ أيضاً: من هي ضاحية بيروت الجنوبية وشو تاريخها؟ (2)

في الختام وقبل طرح مثل هكذا مقارنة، وقبل الوصول والإستنتاج شجاعة أهلنا في الضاحية وسذاجة اهل باريس، علينا أن نؤمّن الحد الأدنى من تطابق الظروف (وبعدين يتفضل يقارن)… وإلاّ فإنّ أيّة مقارنة تحت ظروف مختلفة ما هي إلاّ نوع جديد من أنواع الحماقة.

السابق
من بشار إلى البغدادي ألف شكر
التالي
مفاجأة التوقيفات «عسكريون» في صفوف الارهابيين