أحمد بيضون يردّ على حملة ناشطي الحراك المدني ضده

أحاول من سنين كثيرة أن أتجنب التحوّل إلى “شخصية وطنية” أو “مثقف ملتزم”. ولهذا:

1- لم أوقّع في حياتي عرائض استنكار او تأييد إلا ما يقرب من عَشْرٍ مثّلت حالاتٍ قصوى. مع أن المعروض كان عشرات أو مئات.

2- لا أراعي ما يسمّى التوقيت أو التكتيك فيما أكتب ولا آبه إن كان ما أقوله يفيد شيئاً ما أو يضرّ شيئاً ما. يهمني أن يكون صادقاً ومستوجب الإعلان. أخوض نضالاً مرّاً في وجه الرقابة الذاتية والتحوير والانتقاص والكذب. وحين يغلبني الخوف، مثلاً، أترك الموضوع كلّه: لا أكتب. هذا معيار نصوصي وخلقي في مهنة الكتابة.

3- لا أفترض أن عليّ، بالضرورة، إعلان تضامني مع ضحايا من أي نوع. أعتبر أن هذا تحصيل حاصل: شيء لا يستحق أن يقال… أو صناعة “شخصيات وطنية” و”مثقّفين ملتزمين”. أعتبر، في ضوء حياتي كلها، أن موقفي من هذا النوع من الأمور لا يمكن التشكيك به، من جهة، ولا أهمية لإعلانه من جهة أخرى. ما أراه مستوجب الإعلان هو الفكرة أو الملاحظة: سواء أكانت تفيد معرفة أو تمثّل اقتراحاً أو تسهم في زجر تعدّ أو ردع خطر. حين أجد شيئاً جميلاً وذكياً وحساساً يقال (أو بعض ذلك إن لم يكن كله) أقوله شعراً أو نثراً، بالفصحى أو بالعامية… أو بلغة أجنبية حيث يلزم.

4- أدرك كثرة الالتباس في كل كلام ولا يهمّني أن يُحمل كلامي على محمل أعتبره سيئاً حيث يكون المحمل الحسن هو المتصدّر والأَولى بالاعتبار. أرى مريعاً أن يطلب إليّ، مثلاً، أن أقول “أنتم وأنتنّ” مرّتين في بطن كل جملة وأن أَبِيض، بالنتيجة، جُملاً قبيحة، ثقيلة، تميت النفس. أفضّل على هذا أن أقلع عن الكتابة أو أن أنتحر. لا أهاب، في هذا أو ما يشبهه، مأخذاً من النساء لأنني أعرف موقفي منهن وأعرف أنه مشغول بقناعة سنين من نقد النفس ومن المتابعة والتفهّم والتعلق. أعرف، فوق ذلك، أنني مقيم مع “المساواة الجندرية” شخصياً، تحت سقف واحد من 46 سنة.

5- أكره السلطات بالغريزة بما فيها تلك التي أراها واجبة الوجود لحفظ الحياة والحقوق. لهذا الكره – لا ريب – أسباب ضاربة في القدم عزّزتها أعوام من ممارسة سياسة بعينها ومعاشرة بشرٍ بأعيانهم. على أنني أغالب هذا الكره حين أعالج مشكلاً يشتمل على آخرين. من زمن بعيد لا أستسهل التفريط بشيء لا يخصني، مع علمي بان جهة أخرى قد تُقْدم. أؤثر البحث عن المخرج المتزن.

6- أخوض نضالاً كان مرّاً وأصبح معتاداً في وجه الكلمات الكبيرة والشعوذة في أنواع الخطاب. لا لأنني لا أحبّ المجاز… أدرك أن المجاز رئة العالم والوجود الإنسانيين. ولكن أدرك أيضاً أن في صيغ الخطاب ما يراد به أو هو ينتهي إلى الغشّ وصرف النظر ومصادرة الحرية. ولا أشعر إلا بالازدراء لاعتماد الدارج أو الأحدث ظهوراً والأغلب نفوذاً من بين الأفكار والأساليب والقيم في كلّ باب. أستجمع شجاعتي في وجه النافذ من هذا كله لأرى إن كان يحسن الدفاع عن نفسه.

7- لي غرام تذوّقي وتعرّفيّ بالفصحى، دراسة وكتابة، لا آذن لأحد أن يعدّه مطعناً. وسندي في ذلك أن اطمئناني إلى موقفي من العاميّات يشبه ثقتي بموقفي من النساء. فقد كتبت بالعامية شعراً ونثراً ونشرتُ ما كتبت. وطالبت بإدراج العاميات، في المعاجم الجديدة الكبرى، مستوى من مستويات العربية، هي والفصحى سواء بسواء. ولكن السير في هذا النهج ليس في يد بيضون: الفرد العاري اليدين. إلى هذا لم يكن الانتصار عليّ في ندوة زجلية أمراً سهلاً. ولكنني أقلعت من زمن…

عندي، لو شئت التفكر، مزيد على ما سبق. ولكن أراه كافياً الآن…
لست جديداً ولا صدئاً: تجوّلت لأيام بين أربعة معتقلات سعد-حدّادية وإسرائيلية ولم أذكر هذا كتابةً إلا الآن. ومشيت في تظاهرات لا تعدّ أطلق على بعضها الرصاص الحي وسقط بالقرب مني قتلى وجرحى. وعرّضت نفسي لأخطار أخرى مختلفة… ثم حضرتُ الحرب كلّها (وهذه هي الأهمّ) ولم أغادر حين غادر من هم أضأل مني فرصاً في أوروبا أو أميركا ولم ألتحق بقوة من قوى الدمار ولم أطلب مكسباً بغير مهنتي. ولم أخرج من الحرب محبطاً ولا جباناً. ولكنني تعلّمت: تعلّمت حدودي أوّلاً: أنني أُحسِن أشياء ولا أُحسن غيرها وأن الكتابة مهنة تامّة تستهلك العمر والشخص وليست سلوى لآخر الاسبوع ولا هي صناعة محصورة يبقى معها كلّ شيء آخر على حاله: كلّ العلاقات وكلّ الأفعال والتصرّفات… تعلّمت أيضاً ما في كل اقتراح أو توجيه من مسؤولية عن بشر وحجر: عمّا لم أرثه عن والدي ولا تملّكته بمالي. وتعلّمت الحساب وتقدير الأصوب والأحسن وأن ما لا يجوز لوم الكاتب على قوله يجوز لوم الفاعل على فعله. ولهول ما عايشت أصبحت لا أجتنب الحدّة أحياناً في الزجر أو في النقد.
فللذين أصبحوا اليوم عاجزين عن إتمام جملة من غير أن يعلنوا إسقاط شيء ما أو شخص ما… وهذا دون أن ينتبهوا إلى أن هذه اللغة تسقطهم قبل أن تسقط شيئاً أو أحداً آخر… لهؤلاء أقول أنهم قد يُسقطون، إذا أصبح ذلك في أيديهم وأيدي من يشاطرهم هذا المزيج من الهياج والغفلة، حراكاً رائعاً بوشر إسقاطه فعلاً في عيون اللبنانيين، أولاً. في عيون لبنانيين أقلّ ما يقال في حالهم أنهم باتوا معرّضين للطمر في نفايات نظامهم وقوى طوائفهم.
هذا ولا بدّ أن الحملة عليّ، بعد أن استوت، بلا قصد، ساتراً رقيقاً، في هذين اليومين، لبعض ما يعانيه الحراك وقياداته وأهله من معضلات، قد أوهمَت قلّة من الفسابكة المتعجّلين (مع العلم أن التعجّل من صميم الفسبكة!) بما أرادت إيهامهم به. أوهمَتهم بأن تعرضي بالنقد الصارم لأشاوسها ولأشباههم وللنموذج الذي يسعون إلى إملائه على الحراك إنما هو تعرّض للحراك، في جملته، بالقذف والتشهير .
وقد يكون الأشاوس أسقطوا مثقفاً ما وهم يسقطون ما يسقطونه بلا التقاط للأنفاس. ولكن هذا المثقف، مع شديد الاعتذار، لم يكن احمد بيضون.
… وكانت حماستي للحراك هي ما أعادني (مؤقتاً) إلى الفيسبوك. وبات علي الآن أن أهجره (مؤقتاً أيضاً) مرّة أخرى إلى أعمال أخرى.
شكراً لما بلَغَ صميمي من كلام طيّب كثير، لم يكن معظمه دفاعاً عني بل شبكاً للأيدي في الدفاع عن قيم وأفق وجدناها لهذا الحراك. وقبل القيم والأفق: عن بشرٍ اشتدّت معاناتهم للغاية وقد اشتركوا في الحراك أو وضعوا فيه أملاً ما.
إلى اللقاء!

السابق
استقرار سعر البنزين وارتفاع المازوت 100 ليرة
التالي
5 ايام موجعة لايران و«حزب الله» في سوريا