أفغانستان وسوريا (1): لعبةُ الأمم القذرة

مفاجأةً للرأي العام شكّلها الإعلانُ عن التدخّل العسكري الروسي في الحرب السورية بمباركةٍ من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي وصفت التورّط الروسي بأنه "حربٌ مقدّسة" على الإرهاب الديني الداعشي. وما أن بدأت القواتُ الروسية غاراتها وضرباتها الجوية التي استهدفت الآمنين في بيوتهم وقراهم، ونشرت الموت والرعب في مناطق عدة من سوريا، حتى قفزت الى الذاكرة المشاهدُ المروّعة للغزو السوفياتي لأفغانستان، وما خلّف وراءه من قتلٍ وخرابٍ ودمارٍ وحربٍ أهلية أحرقت الأخضر واليابس، وجرّت المآسي والويلات على الشعب الأفغاني لعدّة عقود. فهل يصحّ إستخدام مصطلح " أفغنة سوريا" لوصفِ ما آلت إليه التطوراتُ الدراماتيكية في سوريا؟

يفيد مسلسلُ الأحداث التاريخي أنّ جذور الأزمة العميقة التي تتخبط بها أفغانستان منذ سبعينات القرن الماضي، ترجع الى العام ١٩٧٣، وهو العام حين قام الأميرُ محمد داود خان بانقلابٍ على إبن عمّه وزوج أخته الملك “ظاهر شاه” أثناء سفره الى إيطاليا للعلاج، واستولى على الحُكم، مُنهياً بذلك النظام الملكي، ومُعلناً قيام الجمهورية. ولكن سياسة محمد داود أخفقت في تحقيق الإستقرار والأمن في البلاد، ما أدّى إلى إندلاع موجةٍ من الاحتجاجات وحركات التمرد والاضطرابات الشعبية التي اجتاحت البلاد .

اقرأ أيضاً: سليماني لـ«القيصر»: أنجدنا وإلا خسرنا معاً الأسد وسوريا!

وكان “حزب الشعب الديمقراطي” الماركسي الذي يدين بالولاء لموسكو، قد انشقّ في عام ١٩٦٧ الى جناحين: حزبُ خلق (الشعب) بزعامة نور محمد تراقي وحفيظ الله أمين، وحزبُ بارشام (الراية) بزعامة بابراك كارمال. في نيسان ١٩٧٨ حدث إنقلابٌ عسكري في البلاد، قام به المجلسُ الثوري للقوات المسلّحة، تبعه قيامُ حزب الشعب الديمقراطي بالإستيلاء على الحُكم، وبإعدام الرئيس محمد داود، وبتحويل أفغانستان الى النظام الشيوعي. تسلّم “نور محمد تراقي” زعيم حزب “خلق”، مقاليدَ السلطة في ” جمهورية أفغانستان الديمقراطية” في ٣٠ نيسان ١٩٧٨، وأجرى الحزبُ الحاكمُ بعض الإصلاحات فيما يخصّ الأراضي الزراعية وعادات الزواج ودور المرأة وميدان التعليم. هزّت هذه الاصلاحاتُ المجتمعَ العشائري التقليدي، واعتُبرت مسّاً بمصالح مُلّاك الأراضي والإقطاعيين ورؤوساء العشائر، وتهديداً لسلطة رجال الدين وللفكر القبائلي السائد في المجتمع.

ولذلك جُوبه الحكمُ الشيوعي برفضٍ واسع من جميع القبائل الأفغانية وعلمائها، ومن أغلبية الشعب الأفغاني المحافظ والمتمسّك بعاداته وتقاليده وعقيدته الدينية. وما لبثت المواجهةُ أن اندلعت بين الحكومة الشيوعية والقبائل بقيادة رؤوساء الأحزاب الإسلامية، وبدأت السلطةُ بمطاردة المتمردّين والمنتفضين واعتقالهم أو قتلهم . ورغم أن النظام الأفغاني، وحرصاً منه على طمأنة الشعب وتهدئة غضبه وثورته، أكّد إسلاميةَ النظام وبُعده عن الشيوعية والإلحاد، إلّا أنّ ذلك لم يلقَ تجاوباً من شرائح المجتمع الأفغاني، ولم يكن كافياً لوقف التمرّد.

وصل ” حفيظ الله أمين ” الذي ينتمي الى حزب “خلق”، الى سُدّة الرئاسة في ١٤ أيلول ١٩٧٩، وتمّ إعدام الرئيس “نور الدين تراقي”. أدرك “حفيظ الله” أن النطام غير قادر بإمكاناته الذاتية على إحتواء الإنتفاضة الشعبيّة التي بدأت تدقّ أبواب العاصمة كابول، نتيجة إتساع دائرتها وتزايد قوتها. لذلك راحت حكومتة تطالب أكثر فأكثر بالدعم العسكري واللوجستي السوفياتي، لمواجهة المنتفضين وللحفاظ على حكومة الثوّار. وقد قام النظامُ بعملياتٍ عسكرية وحشية لسحق المتمردّين عبر قصف مصانعهم وحقولهم وبيوتهم وقراهم، ما أدّى الى تهجير الملايين من الأهالي إلى باكستان وإيران المجاورتين، والى سخطٍ وتعبئةٍ شعبيّة ضد الحكومة التي باتت معزولةً ومنبوذةً من الشعب.

بعد مرور سنة وثمانية أشهر على حدوث الإنقلاب الشيوعي في البلاد، وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد غارقةً في صراعاتها وثورتها الشعبية الدموية، بدأ السوفياتُ بصورةٍ مفاجئة، غزوهم العسكري لأفغانستان، بإحتلالٍ خاطفٍ للأبنية الحكومية والعسكرية الرئيسية، ومحطة الإذاعة في العاصمة، إلى أن تمّ الإستيلاء على معظم مرافق الدولة في وقتٍ يسير.

لم يكن الجيشُ السوفياتي النظامي مدرّباً لخوض معارك في البيئة القاسية لأفغانستان، ولذلك فقد واجه مشاكل متعددة، كان أبرزها طبيعةَ أفغانستان الجبلية الوعرة التي مكّنت المجاهدين من إتبّاع تكتيك حرب العصابات الذي حدّ من قدرات الجيش السوفياتي القتالية، ومن فعالية أسلحته الحديثة والمتطوّرة. ولذلك فقد لجأ الى استخدام سياسة الأرض المحروقة (البيوت، القرى، المحاصيل الزراعية والماشية) بواسطة غاراتٍ جوية مكثّفة على أجزاء واسعة من البلاد، وهو ما أدّى الى تدمير البنية التحتية لأفغانستان، والى إيقاع عددٍ كبير من الخسائر البشرية في صفوف المدنيين، ما بين قتيلٍ وجريحٍ ومهجّر .

اسطول الروسي

وصل ” بابراك كارمال” زعيم حزب “بارشام” الى الحُكم على ظهر الدبابة السوفياتية في ٢٧ كانون الاول ١٩٧٩، وقام السوفياتُ بإعدام الرئيس “حفيظ الله أمين” بحجة ارتكابه جرائم ضد الشعب الأفغاني. إعتقاداً منهم أنّ إطاحته – بعدما فقد السيطرة على البلاد بسبب نزعته الديكتاتورية التي سعت الى الإسراع في فرض الأيديولوجية الشيوعية في بلدٍ متدين ينتمي الى العصور الوسطى – سوف ينهي الصراعَ بين جناحيْ الحزب الواحد (خلق وبرشام) ويقضي على الثورة الشعبية. وهذا ما لم يحصل، إذ لم يلبث “كارمال” أن طلب الدعم والمساندة من السوفيات لسحق التمرد الذي كان يجتاح البلاد. وهكذا بدأت القوات السوفياتية بتعزيز مواقعها واحتلالها لأهدافٍ استراتيجية داخل أفغانستان، بذريعة تلبية طلب الحكومة لمواجهة الإنتفاضة، وبدأ تدفّق آلاف الجنود من الإتحاد السوفياتي الى أفغانستان.

اقرأ أيضاً: المظاهر لا تجعل من روسيا ..الاتحاد السوفياتي

وتجدر الإشارة الى أن تغلغل النفوذ السوفياتي الإقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري في أفغانستان، لم يكن وليد اللحظة، بل هو قديمُ العهد يعود الى معاهدة الصداقة التي وُقِعّت في عام ١٩٢١ بين الاتحاد السوفياتي وأفغانستان في عهد “أمان الله” الذي أعلن إستقلال أفغانستان عن بريطانيا، متأثّراً بالثورة البلشفية، وكذلك يعود حديثاً الى “معاهدة الصداقة والتعاون وحُسن الجوار” التي وقّعتها موسكو في أعقاب الثورة الشيوعيّة، مع أفغانستان في عام ١٩٧٨ في عهد ” نورالدين تراقي”، والتي تسمح بالتدخّل العسكري السوفياتي في حال طلبت الحكومةُ الأفغانية ذلك. ولذلك فقد نفى السوفياتُ، ردّاً على الاتهامات الغربية، أن يكون إرسالُ الجيوش الجرّارة الى أفغانستان، هو احتلالٌ لأرضٍ أجنبية، بل لقد برّروا غزوهم أو تدخلّهم العسكري، بأنه جاء لإستعادة الوفاق الوطني وتعزيز الأمن والاستقرار في مواجهة المتمرّدين، تلبيةً لطلبٍ متكرّر من الحكومة الأفغانية الموالية للإتحاد السوفياتي، والتي كانت تعاني من هجمات الثوّار، ومن العصيان المسلّح في معظم الأقاليم الأفغانية، الذي وصل الى حدّ المطالبة بالحكم الذاتي.

(يتبع)..

السابق
بالفيديو.. إعلامي في الـOtv يستقيل على الهواء مباشرة
التالي
ميْ ع الطبل.. «يا جدع»؟!