الانتصار السوفييتي الضائع في أفغانستان… وسرابه في سوريا

يكفي أن يرافق نشيدا الجمهورية العربية السورية وحزب البعث العربي الاشتراكي، باللحن والكلمة، صور النشرة الاخبارية بشأن مجريات الحرب السورية، وبشكل نافر أكثر بعد التدخل الروسي، لإيضاح هزلية النظام الذي يقوده بشّار الأسد، رغم نجاحه في البقاء كآلة احتضار دموي مزمن، وصولاً إلى لحظة الإنجاد الروسي له.
«حماة الديار» و»عرين العروبة بيت حرام» و»من جذور الأرض جئنا».. «أو يقال الظلم زال»، كلمات يكفي نثرها على فظائع الحرب السورية، وحروب التدخل المتوازية الجارية حالياً في سوريا، لتبيان حجم «النكتة المقبرية».
هذه «النكتة المقبرية» هي في وجه منها، تحوّل النظام الذي كان القطر العربي السوري بالكاد يكفيه قبل سنين قليلة، ولا يقبل بأقل من مصادرة قرار اللبنانيين والفلسطينيين وأيضاً العراقيين، إلى أحد الكيانات السياسية المرتبطة مباشرة بالانعاش العسكري والاستخباري الروسي والتي لا تعترف بها إلا موسكو، كأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جيورجيا، ودونتسك ولوهانسك شرق اوكرانيا، وجمهورية ما وراء الدنيستر.
الوجه الآخر لـ»نكتة المقابر» هذه، أنّه وبدل «البعث العربي»، والذي، بدلالة الاصطلاح، من نهوض الشعوب العربية وتحررها والتضامن في ما بينها – قد نكون الأحوج اليه، صار «البعث الأسدي» أداة قتل مئات آلاف السوريين تتقاذفها أهواء «بَعثات» ما كانت على الخاطر والبال، فوق الأرض السورية، قبل عقود خلت. «بعث الساسانيين»، «بعث الصفويين»، «بعث آل رومانوف»، «بعث الاتحاد السوفييتي»، هذا بالاضافة طبعاً إلى «بعث الخلافة الراشدة»، و»البعث البيزنطي».
التدخل الروسي يكبّل النظام السوري بإدراجه في خانة «الجمهوريات المعلنة من جانب واحد» والتي لا تعترف بها إلا موسكو. هل يعني ذلك ان النظام انتقل من عهدة ولاية الفقيه الإيرانية وحراسها إلى عهدة القوة الأوراسية الأرثوذكسية الجريحة والمستأسدة؟ ليس بهذه السهولة. انما بحكم المؤكد انّ أغراض موسكو ليست مطابقة تماماً لسياسات إيران، وانّ التدخل الروسي في صيغته الحالية، كضربات جوية، هو قاعدة تفاوضية مع التدخل الغربي، الذي يمارس هو الآخر كضربات جوية، ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». التنسيق الروسي الفرنسي اختبار مهم في هذا المجال. المسعى الفرنسي فيه الزام روسيا بحصر ضرباتها بتنظيم الدولة، وتجنب استهداف المدنيين، وربط العمل العسكري بالسياسي. التجاوب الروسي مع هذا محدود طالما ان موسكو تربط الحل السياسي ببقاء الأسد. وبقاء الأخير ليس مسألة أخلاقية أو ذوقية: لا يمكن تخيل هدنة يوم واحد في سوريا طالما هو حيث هو. لن تتوقف الحرب فوراً برحيله، انما رحيله هو المدخل الجدي الوحيد للسيطرة، داخلياً وخارجياً، على محرّكات الحرب السورية، باتجاه جعلها متقطعة، ومتراجعة الوتيرة، على خطى بناء بيئة السلم الأهلي والعدالة الانتقالية وصون التعددية وما يمكن حفظه من مؤسسات الدولة والمكافحة الناجعة للإرهاب.
يضاف العمل الروسي الراهن إلى التدخل الإيراني واللبناني – الإيراني لصالح النظام، والتدخل الاسرائيلي ضد أهداف للنظام و»حزب الله»، والتدخل الأمريكي الاطلسي العربي ضد تنظيم الدولة، والتسليح الغربي والعربي لبعض الفصائل السورية المعارضة، والتسليح الروسي الذي لم ينقطع يوماً للنظام، بل تسارع وتضاعف، والتدخل التركي ضد تنظيم الدولة و»حزب العمال الكردستاني».
بهذا المعنى، نحن أمام مشهد مختلف إلى حد بعيد عن افغانستان الثمانينيات، تلك التجربة التي تبخسها حقها المقارنات التبسيطية وثقافة «التوعد» التي لا تخدم التحليل في شيء.
المفارقة اليوم هي في مشهد الحروب المتوازية والمتداخلة في سوريا. كلّ يريد استهداف «داعش وشيء آخر». هذا الشيء الآخر قد يكون النظام، أو جبهة النصرة، أو المعارضة السورية، أو العمال الكردستاني. كلّ يريد الاستعانة في مواجهة داعش بأحد هؤلاء في المقابل. وهذا التخبط يتيح المزيد من الاقتدار لرجال تنظيم «الدولة». إذا كانت الحرب الجوية المتواصلة التي يقودها باراك اوباما ضد مواقعهم فشلت بشكل ذريع منذ عام، فان الحرب الجوية الروسية ضد فصائل منافسة لداعش لن تعطيها إلا مزيداً من المكنة والتمدد، خصوصاً بعد التوسّع الروسي في تحديد ماهية «داعش» بشكل صوّر الأخيرة كما لو أنها حالة وطنية تواجه بتعاقب هجمات استعمارية ضدها، ولا يقوى عليها أحد.
افغانستان جديدة؟ شتان! لم يحصل للجيش السوفييتي في أفغانستان ما حصل للأمريكيين في فييتنام. سلاح الدبابات بالذات أثبت براعة منقطعة النظير في أفغانستان.
الانسحاب السوفييتي من افغانستان أتى بعد مرور عام وأربعة أشهر على تحقيق انتصار عسكري كبير تمثل بعملية ماجيسترال عام 1988 بقيادة الفريق اول بوريس غروموف. وحتى صواريخ ستينجر المضادة للطائرات والتي سلمها الأمريكيون للمجاهدين الأفغان لم يكن تأثيرها بالشكل الاستراتيجي الخرافي الذي يجري تسويقه. بخلاف «عقدة فيتنام» عند الأمريكيين، عقدة الجيش الروسي من الانسحاب أنّه شوّه الانتصار العسكري في «ماجيسترال»، وأن «ماجيسترال» هي مدرسة لمكافحة الإرهاب الإسلاموي مستقبلاً. كان هذا طبعاً قبل ان يتراجع نموذج غروموف ودباباته لصالح نموذج سحق الانتفاضة الشيشانية بتدمير مدينة غرورني على من فيها.
بشار الأسد وجيشه والإيرانيون تكفلوا بتطبيق نموذج تدمير غروزني في سوريا، وهم لا يحتاجون لإسهام روسي اضافي في هذا الباب. النجدة للنظام لا يمكن سترها بكل التسويغات الرسمية الروسية للضربات الجوية بداعي مواجهة تنظيم الدولة والجهاديين، وهذه الضربات اما ان تركز على «داعش» فتستفيد «النصرة»، واما على النصرة فتستفيد «داعش»، واما على «النصرة وداعش» فيستفيد عندها التنظيمان الجهاديان. ليس هناك شيء يشبه «عملية ماجيسترال» 1988 في كل هذا: الروس يجربون بدورهم كل ما حاوله الآخرون من الاكتفاء بتدخل جوي، في بلد يشهد حرباً اهلية المستوى الجوي فيها محدود.
يبقى، في كل الاحوال، ان وضع النظام في عهدة الجيش الروسي هو مسألة ينبغي تظهيرها بشكل واضح، وبالمتسع الاستفادة منها لجعل عمر بشار الأسد المتبقي في رئاسة سوريا هو مدة التدخل الروسي نفسها، ينقضي بانتهاء التدخل.
اذا بقي التدخل جوياً فهذا لن يعطيه مدى زمنياً يتجاوز بضعة أشهر، وسيضطر تدريجياً للتنسيق مع الجانب الغربي في حربه على «داعش»، وستصبح مشكلة توفيقه بين ذلك، وبين دعمه للنظام، مشكلته هو لا مشكلة الآخرين.
الحفاظ على المقاربة السياسية بدلاً من «المواجهة الحضارية» مع موسكو يبقى اذاً مصلحة قومية للشعب السوري. ولتترك «المواجهة الحضارية بين الارثوذكسية والدين الحنيف» إلى داخل المجتمع الروسي نفسه، الذي يخوض على طريقته، حرباً أهلية روسية روسية في سوريا، بين الاف المقاتلين الروس، من شيشان وغيرهم، في صفوف داعش والنصرة، وبين طلائع سلاح الجو الروسي، الذي يمتاز عن الطائرات السوفييتية القديمة للنظام البعثي بحداثة طيرانه، ويتخلف عن هذه الطائرات بأنه لا يمكن، رغم كل شيء، أن يحملها براميل متفجرات، تستهدف التجمعات السكانية بنفس القدر، رغم كل الرعونة والفظاظة الروسيتين في القصف. هو في آخر المطاف تدخل محدود سلفاً، رغم كل صخبه، وضحايا صواريخه. «ماجيسترال» عام 1988 كانت انتصاراً سوفياتياً ضاع سدى، وتضييعه ساهم في تضييع الاتحاد السوفييتي. ماجيسترال الجديدة في سوريا قزمة قياساً بالأولى، وأكثرها سراب، سراب سيسفك دماء مزيدة، لكنه يبدّل كثيراً مسار الأمور. أكثر: أيام ولا يعود الروس يعرفون ما الذي يريدونه بالتحديد؟ «بشار الأسد»؟ فهمناها. وماذا بعد؟ «بشار الأسد من أجل بشار الأسد»؟ حتى السيد حسن نصر الله لا يقولها!

(القدس العربي)

السابق
قمة الطرافة
التالي
رسالة اعتذار الى ميشال الدويهي