روسيا السوفياتية القيصرية الأرثوذكسية الرأسمالية… وما زال يساريون يرونها بعين الرضا

تغيرت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أكل أقوياؤها ثرواتها، فصارت بلاد المليارديين الباحثين عن شراء اليخوت والجزر والمصارف. وبات شعبها يحلم بالاستهلاك البغيض، مثلهم مثل نظرائهم الصينيين، بعدما تبخرت من عقولهم وعواطفهم كل المبادئ ،التي صنعت مجد ثورتهم الاشتراكية، وكل اشعاعات الأممية الشيوعية المتبقية على احزاب عالم ثالث تستعطفها.

ومن أجل ذلك، كان على حاكمها شبه المطلق، فلاديمير بوتين، أن يخترع فكرة تلائم جديدها، بعد ثلاثة عقود على هذا الانهيار، ومخاضه المتعثر. فكانت تلك الأيديولوجية العجيبة المعجونة بعهدين متناقضين، هما مزيج مسطّح ومفرَّغ من الحمية «السوفياتية» والتبجيل «القيصري الأرثوذكسي».

وإشارات العودتين لا تحصى. السوفياتية أولا: عودة التسميات، مثل وكالة أنباء «تاس»، السوفياتية، بدل «إيتار تاس»، الما بعد سوفياتية؛ أو البوليس الموسكوفويتي، الذي استعاد اسمه الأصلي، «درزجنسكي»، وهو اسم مؤسس البوليس السياسي السوفياتي المعروف بـ»الكا جي بي»؛ أو عودة البدلة العسكرية السوفياتية أثناء العروض الإحتفالية؛ أو العودة المظفرة لتهمتَيّ «عميل للخارج»، و»الطابور الخامس»، لوصف من لا يشاطر السلطة رأيها؛ أو استرجاع الرموز مثل المطرقة والمنجل، واللونين الأسود والبرتقالي، الأول عمالي، والثاني عرف كرمز من رموز الإنتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية؛ ترفعهما الآن الميليشيات المؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا؛ أو استعادة البروباغندا الحربية، وتفوقها على السلمية منها في كافة المجالات، ومعها تكريس «الأعداء الواضحين»، وهم بنظرها البيدوفيليين، المثليين، متبني الاطفال، الوكلاء التجاريين للخارج، «الزمرة الحاكمة في كييف» (عاصمة أوكرانيا)، «الطابور الخامس» الغذائي المؤلف من جبنة بارميسون وماكدونالد، والسّلمون النرويجي… وهلّم جرى.

العودة القيصرية الدينية ثانياً: وهنا مخيلة بوتين لا تبخل على رعاياه: فهو لا يرى تعارضا بين تعبيرات حنينه الى الاتحاد السوفياتي، وبين ترحيبه بكل اشارات ورموز ومسالك العهد القيصري، الذي سبقه، والتي أقامت الثورة البلشفية حكمها على أنقاضه. أراد بوتين أن يبدو «جامعاً للأمة»، على الطريقة العربية، فراح يتبنى كل الطقوس والأحكام الوفية لعهد رومانوف الامبراطوري القيصري: يحكم فرديا، في العزلة التامة، يأخذ قراراته بعدما يستمع الى نصائح مستشاريه، الذين يدلون بما يحب أن يسمع. يسعى لإشراك ميخايلوفتش كيريل، بطريرك الأرثوذكس، في غالبية المناسبات المحلية، يعطي لشبه جزيرة القرم اسم «نوفورسيا» القيصري الامبراطوري، يأمر بتنظيم معرض عن سلالة ريوريكيد، القيصرية التي سبقت آل رومانوف على العرش الامبراطوري، وبتنظيم معرض عن خارطة روسيا القيصرية، عندما كانت كييف عاصمتها، وبنصب تمثال على ابواب الكرملين لألكسندر الأول، القيصر الذي حكم روسيا حتى وفاته عام 1815، والذي عرف بانتصاره على بونابرت واجتياحه لفنلندا وهندسته لتحالفات أوروبية تحت سيطرته، لتحييد آثار الحركات الثورية الفرنسية عن الملَكيات المهدّدة وقتذاك…

ولا تنتهي لائحة الاستعارات الذهنية والجمالية والإشارات المبعثرة هنا وهناك، والتي اذا جمعتها في بوتقة، لوجدت خزانا من التاريخ، لا من الأيديولوجيا، كنز من التاريخ، تمكن بوتين العبقري من استجماع أبهى حلَلِه، لتخدمه في تأبيد حكمه المنفرد لروسيا، بالتواطؤ مع أرباب المصالح والاستثمارات، وبالاتكاء على مشاعر قومية، يعززها الغرور السوفياتي والقيصري والديني.

ينطوي هذا المزيج السلطوي على تناقضات بائنة: بين حضنه «الشيوعي» الذي صاغ الهوية السوفياتية، وسطوة الدولة التي صنعت مجد القيصرية، فضلا عن الذي أعلى من المؤسسة الأرثوذكسية… ولكنه سكت ايديولوجيا عن الاقتصاد، ولم ينثر وروده الفكرية على الملايين التي يجنيها «أصحاب الاستثمارات» المربحة؛ سكت لأنه يستحيل عليه ان يصرح عن فسادها، وتعارضها المربك مع الاستعارة السوفياتية خصوصاً.

مع أن مصالح «أصحاب الاستثمارات» تلتقي مع الاستعارات الثلاث، السوفياتية والقيصرية والارثوذكسية، حول مكوِّن واحد، هو القمع: القمع بصفته أداة إقناع بكل هذا الخليط الأيديولوجي العجيب، هذه الثلة من العصور والأزمنة المتضاربة، يجمعها فقط قدرتها على ديمومة سلطة القيصر الجديد، بوتين.

وهذه ليست ازدواجية كالتي نعرفها نحن العرب حول أنفسنا: إزدواجية بين هذا وذاك، بين الفعل والكلام عنه، بين الحداثة والأصالة، بين الكذب والصدق الخ. كلا… انها ليست بهذه البساطة. انها بالأحرى كما الدمية الروسية، في داخلها دمية أصغر ثم أصغر فأصغر… طبقات من الأفكار المرتبة بين بعضها، المتلصقة ببعضها، غير المتساوية ببعضها. لعبة خشبية واحدة ومتعددة، متطابقة في شيء ومختلفة في آخر، بدرجات من الحجم… تلك هي الأيديولوجية التي يخترعها الآن فلاديمير بوتين، باذلاً من الخيال والتركيب ما يوازي أعمال الروائيين الصغار، في اجتراع الطرق الملتوية غير المقنعة الا لمن كانت تقتضي مصلحته أن يقتنع.

كل هذا الجهد الذهني من أجل ماذا؟ من أجل تأكيد شرعية احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، ودعمها التوسعي لكل الحركات الانفصالية المؤيدة لحكمها في شرق اوكرانيا، وتوثيق سلطة حاكمها المطلق، بوتين، في قيادة حرب سيطرة هذه بينه وبين الغربَين الأميركي والأوروبي، فإقناع مواطنيه بعظمة موقعاته بالنفخ في الغرور القومي الأجوف، القائم على تجارب ومسارات فاشلة، متناقضة، غير متماسكة، غير منطقية، غير مطابقة. ولكنه الغرور! تلك الآفة التي تعصف بمعاصرينا، شعوبا كانوا أم كبارا أم صغاراً… الغرور بالماضي، الماضي بصفته يخدم سلطة لا رؤية لديها سوى تأبيد نفسها: وبوتين بذلك لا يختلف عن قادة آخرين، في بلادنا، إلا بحجم بلاده وقدراتها النووية والاقتصادية، ومساحاتها الشاسعة، وتقاليدها العريقة في اللعب بمصائر الشعوب المجاورة كأنها رقعة شطرنج.

ومع ذلك، تجد من يفرح في منطقتنا بعودة الحرب التي يخوضها بوتين تحت راية الاتحاد السوفياتي السابق، حرب كانت «باردة»، وعادت الى ما كانت… تجد من ينتعش حزبه الشيوعي فجأة بعد عودة روسيا بهذه الحرب الى الحلبة الدولية، «تقارع الامبريالية والصهيونية والنازية والرأسمالية والنيوليبرالية»… وتساند في طريقها قضايا الشعوب العربية. تجد من يكشف عن «خطاب جديد» لبوتين، عن «وضوح وصراحة وحسم، لم يعرفه حتى العهد السوفياتي»… من يغازل روسيا العائدة بقوتها البديهية «تبني الشراكة الاقتصادية والسياسية بالتعاون مع شعوبنا التائقة الى الحرية والعدالة»…

وكما في كل عطب ذهني لا بد أن تتساءل: هؤلاء المناضلون الشرفاء الذين يقاتلون من خلف نافذتهم السميكة، هل مسّ عقلهم خلل لكي لا يروا بأن روسيا اليوم والأمس هي قوة إمبريالية أخرى على خريطة الامبرياليات الاقليمية، وانها تضاهي الإيرانيين في لعبة الشطرنج التي اخترعوها، وان أيديولوجيتها الجديدة هي في خدمة هذه الامبريالية، في خدمة سلطة قائدها؟ أم انهم على علاقة زبائنية مع روسيا، شبكة علاقات ومصالح وأجندات ثمينة، تردعهم عن إدراك هذه الجدّة؟ أو انهم لا يستطيعون ان يقطعوا حبل سرّتهم، تلك العلاقة السرية الباطنية القائمة مع من صنع ولادتهم، فيبقون على حالهم من الطفولية؟ أم انهم، مثل «داعش»، ماضويون، يرسمون مستقبلهم بما مضى… وإن بماض مختلف؟

السابق
الشرطة التركية تنفذ حملات اعتقال ضد انصار الداعية ‘غولن’
التالي
كنعان: نتواصل مع القوات اللبنانية لنتحاور