النظام السوري و«الفاتح من سبتمبر»

خيرالله خيرالله

مرّت ذكرى «الفاتح من سبتمبر» وكأنّها من ماضٍ سحيق. طوى النسيان الذكرى التي كانت ليبيا تحتفل بها منذ العام 1969 في مناسبة وصول معمّر القذّافي إلى السلطة اثر انقلاب عسكري قضى على كلّ ما هو حضاري في البلد، كما قضى على أي مستقبل له. لم يكن مرور الذكرى مرور الكرام أمراً طبيعيا بأي شكل، خصوصا إذا اخذنا في الاعتبار ما ارتكبه فرد في حق شعب بكامله وببلد كان، إلى ما قبل فترة قصيرة، موجودا على خريطة العالم.

رحل معمّر القذافي بالطريقة التي تليق به وبما ارتكبه، ولكن ليس قبل تدمير البلد. المؤسف أكثر من أيّ شيء آخر، أنّ ليس ما يشير إلى أنّ في ليبيا من هو قادر على الاستفادة من تجارب الماضي القريب والوقوف، ولو دقيقة صمت، على ارواح ضحايا القذافي الذي قتل في خريف العام 2011 على يد شبّان هائجين لم يكن لديهم سوى هاجس الانتقام.

ليس واردا أن تعود ليبيا. انتصرت فكرة «الجماهيرية«، أي الفوضى المدروسة التي اعتمدها القذّافي في ادارة شؤون الدولة. كانت النتيجة الأولى لما فعله الرجل، الذي حكم طوال اثنين واربعين عاما، القضاء على الدولة ومؤسساتها… كي لا تقوم لها قيامة في يوم من الأيّام. هل من سمّى نفسه «القائد« كان يعي ذلك ويهدف اليه؟ الأرجح أنّه كان يستوعب تماما النتائج التي ستترتب على اعماله وخطواته المدروسة. لم يكن معمّر القذّافي يعبد إلّا معمر القذافي. كان معمّر القذّافي يحسد حتى نجله سيف الذي يمكن القول، على الرغم من رعونته، أنّه أضحى الضحية الأولى لوالده!

عفوا، وجد من يتذكّر «الفاتح من سبتمبر« ومثل هذا النوع من «الثورات«. لم يجد النظام السوري أفضل من ذلك اليوم كي يحتفل باقامة ساحة في دمشق سميّت ساحة كيم ايل سونغ وذلك في مناسبة الذكرى السبعين لقيام جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، أي كوريا الشمالية، التي تعتبر بكلّ المقاييس، إلى جانب سوريا ـ النظام العلوي، اسوأ دولة في العالم. كوريا الشمالية هي الدولة الستالينية الوحيدة الموجودة على الكرة الأرضية. لم تجد هذه الدولة من يحتفل بذكرى قيامها سوى النظام السوري. هل اراد بشّار الأسد شكر بيونغ يانغ على الصواريخ التي ترسلها اليه كي يمعن في قتل السوريين وتدمير ما بقي من البلد؟

هناك حكام نذروا نفسهم لتدمير بلدهم. كان معمّر القذافي من هذه الطينة لا اكثر ولا أقلّ. كان التدمير بالنسبة اليه هدفا بحدّ ذاته. كان رجلا مريضا بالفعل. لعلّ أخطر ارتكاباته أنّ بعضاً من الليبيين صاروا على شاكلته.. لا يوجد تفسير آخر لما حلّ بالبلد بعد رحيل القذّافي. تحوّلت ليبيا إلى قاعدة للإرهاب والإرهابيين بعدما اجتاحها التطرّف الديني، الذي تعتبر حركة الإخوان المسلمين حاضنته وفي اساسه.

باتت ليبيا تشكل تهديدا لكلّ جيرانها في وقت صار المواطن الليبي على استعداد للهجرة بكلّ الوسائل المتاحة إلى أي بلد في العالم هربا من الأرض التي كان يفترض بها أن تحتضنه وأن ترعى اولاده.

يسير النظام السوري على خطى القذافي. من يكافئ كوريا الشمالية على الصواريخ التي ترسلها اليه من أجل قتل شعبه، لا يكون لديه مثل أعلى غير القذّافي والتجربة الليبية. الفارق أن حافظ الأسد استطاع توريث ابنه كي يكمل مهمّة تدمير سوريا وتفتيتها في حين تولّى معمّر القذافي المهمّة بنفسه، ولم يكن في حاجة إلى الإبن لتنفيذ عملية التدمير الشاملة لليبيا. ربّما خشي أن لا يكون الإبن على الموجة نفسها وأن يقوم بجهد ما يصبّ في اعادة الحياة إلى البلد، هذا إذا افترضنا حسن النيّة تجاه ما كان ينادي به سيف الإسلام القذافي. سيف الإسلام موجود في السجن حاليا، ولا يزال الرجل ينتظر محاكمة عادلة تشير إلى أنّ شيئا ما تغيّر في البلد منذ رحيل معمّر القذافي.

سيحاسب التاريخ النظام السوري مثلما حاسب «الجماهيرية«. ولكن هل يمكن أن ينصف التاريخ سوريا والسوريين الذين يدفعون اليوم ثمن الإنقلاب العسكري الأوّل لحسني الزعيم الذي كان في العام 1949 بداية القضاء على الحياة السياسية والإقتصادية في بلد كان مؤهّلا لأن يكون بين الأكثر تقدما في الشرق الأوسط.

لم تشهد ليبيا سوى انقلاب عسكري واحد تكفّل بالقضاء عليها. أمّا سوريا، فإنّ تاريخها الحديث حافل بالإنقلابات وصولا إلى الإنقلاب الأخير لحافظ الأسد في العام 1970 والذي يبدو أنّه نهاية الإنقلابات ونهاية سوريا في الوقت ذاته.

تحصد دول مثل ليبيا وسوريا ما زرعته الإنقلابات العسكرية التي اوصلت ايضا العراق والسودان إلى ما وصلا إليه، خصوصا بعد اطاحة الملكية في مصر في العام 1952.

ليست دول الخليج وحدها التي نجت من شرّ الإنقلابات العسكرية. لبنان نجا ايضا، ولكن إلى حدّما فقط. كانت تجربته قابلة للحياة لولا اصرار حافظ الأسد على مدّ تجربته السورية، ذات الطابع المذهبي الطائفي، اليه. اعتمد خصوصا على ضرب النظام اللبناني، كي لا يكون من امل بتسرّب الحرية إلى سوريا. استفاد من الإنقسامات الطائفية والوجود الفلسطيني المسلّح في الوقت ذاته. تظاهر بحماية حقوق المسلمين من السطوة المسيحية من جهة وعمل على تخويف المسيحيين من السلاح الفلسطيني بصفة كونه سلاح المسلمين من جهة أخرى. كان الأسد الأب تجربة مميّزة بحدّ ذاتها في مجال ضرب نسيج المجتمعين السوري واللبناني.

كان هدفه في كلّ وقت وضع اليد على لبنان وتحويله إلى محافظة سورية لا اكثر يحكمها الضابط السوري المقيم في عنجر…

في ذكرى «الفاتح من سبتمبر«، يمكن الحديث طويلا عن مآثر الإنقلابات العسكرية التي قضت أوّل ما قضت على المدن العربية بهدف ترييفها. في السنة 2015، نجد أن الإمر لم يعد مقتصرا على هذه المدينة او تلك. هناك دول باتت مهدّدة في وجودها.

ما يجمع بين هذه الدول هو البيان الرقم واحد الذي لم يجد، لحسن الحظ من يذيعه لا في المملكة المغربية ولا في المملكة الأردنية الهاشمية… ولا في أي دولة عربية في الخليج.

الصورة سوداء في كلّ دولة عربية اذيع فيها البيان الرقم واحد. لا مستقبل لأي دولة عربية حصل فيها انقلاب عسكري. ليبيا مثل صارخ على ذلك وعلى افلاس كلّ الأنظمة العسكرية ـ الأمنية التي اوصلتنا إلى وضع لم يعد من مصير ينتظر سوريا غير المصير الليبي.

(المستقبل)

السابق
مناورات عسكرية معادية في مزارع شبعا المحتلة
التالي
البابا يدعو كل أسقفية أوروبية إلى إيواء عائلة من المهاجرين