بشرى البستانيّ: أطمح إلى نص يتجاوز النسبة إلى رجل أو امرأة

شاعرة وأستاذة جامعيّة للأدب والنقد في جامعة الموصل، برزَ اسم بشرى البستاني منذ صغرها. شعرُها أسئلة تضجُ بالقضية والألم. تبحث دائماً عن كل جديد، وتكرّس وقتها للكتابة والإشراف على الدراسات، وأنشطة مدنيّة متنوعة.

تخرجت في جامعة بغداد ونالت شهادتي الماجستير والدكتوراه من كلية الآداب / جامعة الموصل. حصلت على وسام الأستاذ المتميز الأوّل على الأكاديمية العراقية للعام 2012، ووشاح الإبداع من رئيس جامعة الموصل للعام 2014. من دواوينها الشعريّة الصادرة: ما بعد الحزن، والأغنية والسكين، وأنا والأسوار، ومخاطبات حواء، ومواجع باء ـ عين.

هيمنة الذكورة على الواقع العربيّ سمة بارزة. هل تمكنت المرأة الشاعرة من تفكيك الواقع عبر نص شعري له حضوره الفاعل؟

ـ نظلم الشعر والفنون حين نسند إليهما مهمة تفكيك عُقد الواقع الذي يحتاج تغييره لفعل جهادي اقتصادي وسياسي واجتماعي وتخطيط حضاري ينسف التخلف من جذوره، ويجتثّ عوامل السلب التي وطدتها القرون وتعهدتها قوى خارجية وداخلية من أجل إدامة منظومات المصلحة وكراسي الذرائع المرتبطة بالقوى الأجنبية والعمالة لها.

إنّ الشاعرة العربية، يعوزها الكثير من الجرأة والتجارب والعلوم والمعارف والفعل والخبرة المعمّقة كي تقول كل ما يجب قوله شعراً، وقصور هذه الجرأة ليست جبنا ولا ضعفا أو انكفاء على الدوام، لكنه في الغالب استجابة لاشتراطات قسرية وموقفُ تحسّبٍ واعٍ لما يحيط بها وبأسرتها من سلطة ثقافة ذكورية وارتداد طائفي وقيم عشائرية ما زالت تهيمن على المجتمع يؤازرها مد التطرف المسلح بالتدين المؤدلج والعنف الخطير. أتطلع دوما لكتابة نص إنساني قادر على تجاوز التحديدات التي تنسبه لرجل أو امرأة؛ لأن القمع واقع على الطرفين كليهما، ولو كان الرجل حراً لما قمع المرأة، نحن بحاجة لكتابة نص ينتمي للإنسان.
الأدبُ متصالح مع الثقافة والمجتمع، الشعر مضاد لهما لأنه يهدد أنظمتهما، هل يصلح هذا الوصف على نصوص عراقية كثيرة وبخاصة بعد 2003؟

ـ لا ينطبق مثل هذا القول دوما على الواقع حتى في الدول المتقدمة، ولا سيما حين يكون الواقع إشكاليا كما هو واقعنا، اليوم، فالثقافة الحقيقية لا يمكن أن تكون متصالحة مع المجتمع على الدوام حين تكون فاعلة وعضوية؛ لأن وعيها القيادي يوجب عليها البصيرة. اتسم الشعر بالتمرد والخروج على المألوف، حتى إنه في عز إلفته مع السلطة وملوكها شهد استثناءات ومواجهة حادة وصلت حد الموت أو التمرد التام واعتزال المجتمع كما حدث مع طرفة والصعاليك.

إنصافا للشعر العراقي يمكن القول إن المقاربة لثلةٍ من النصوص الشعرية تؤكد مكابدة الشعراء العراقيين في التعبير عن المحنة العراقية الكارثية التي لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلا، لا سيما لدى أولئك الشعراء الذين غادروا العراق للمنفى لكنهم لم يغادروا إلا المكان، ولم يبتعدوا عن وجع شعبهم ووطنهم، أما الحديث عن القيمة الفنية لذلك الشعر، أقول بإنصاف، وبعيدا عن الكثير مما يُكتب في الصحف والمواقع الإلكترونية من آلاف النصوص الركيكة والمربكة والمفككة والمخجلة والتي ليس لها أية علاقة بروح الشعر والشعرية ولا بقيمهما الجمالية. الشعر العراقي الأصيل ما زال يقول ذاته الأصيلة لكن على يد قلة لم يُتح لها أن تأخذ حقها في الحضور لسبب لا يخفى على المتأمل، ذلك أن الشعر ليس وحده في أزمة، بل النقد كله في أزمة حادة وحقيقية.

نلاحظ في منجزك أنّكِ توفقين بين الحداثة والتجدد، كيف ترين واقع هذا الجدل داخل المؤسسة الأكاديمية وخارجها؟

ـ من الموضوعي القول إن الأجواء داخل المؤسسة الأكاديمية وخارجها يسودها التباين في مواقفها المعرفية من القديم والجديد. لخص محمد عابد الجابري، القضية مؤكدا أن التراث ليس بضاعة تم إنتاجها دفعة واحدة خارج التاريخ ، بل هو جزء منه ومن حركة الفكر وتطلعاته، فهو لحظات متتابعة ألغى بعضها بعضا أو أكمله، فدعا إلى التعامل معه على مستويين، مستوى الفهم ومستوى التوظيف والاستثمار.

إنّ الحداثة ضرورةٌ لأن تحيا عصرك وزمنك، وتكون في قلب وقائعه لكنْ بروح الثائر العاشق لفعل القيمة والجمال، متسائلا ومتجاوزا ومستكشفا ومخترقا الساكن والمألوف الراكد، شرط ألا تقطع علاقتك بما هو متألق في تراثك الذي يحمل هويتك وخصوصية ثقافتك.

النظرية النقدية

متى يكف الناقد العربي عن استيراد نظريات غربية؟ هل نحن بحاجة إلى تأسيس نقد عربيّ ؟
ـ لن يكف الناقد العربي عن استيراد تلك النظريات الغربية ما دام مستهلكا لثقافة الغير. إنّ النظرية النقدية قضية أكبر من خواطر ناقد؛ لأنها تحتاج لأسس فلسفية ومرجعيات وأفق معرفي يتسم بسعة الرؤيا وعمق المعرفة كي تكون مشروعا معتمدا، وبحاجة لدراسة التراث النقدي والثقافي العربي من أجل توصيفه نظريا، وفحص جهازه المصطلحي الثري بالعودة المتأنية لآراء النقاد العرب.

إنّ سؤال النظرية النقدية العربية مطروح دوما، ولعل المرحوم الدكتور عبد العزيز حمودة جهد في الجواب عليه عبر ثلاثة كتب هي المرايا المحدبة والمرايا المقعّرة والخروج من التيه، لكن القضية حينها أثارت كثيرا من الجدل لأنها لم تُطرح بوصفها مشروعا مدعوما بجهد جماعي مؤسساتي تسهم فيه المؤسسة الأكاديمية والثقافية وتتبناه المؤسسة السياسية بالمؤازرة . إنّ المتأمل للنقد العربي القديم يجده قد تضمن التماعات رائعة في الأدب والفنون وفي محاور نقدية وبلاغية وعروضية شتى ، لكن هذه الجهود النقدية تحتاج لجمعها وإضفاء روح المعاصرة عليها والتعقيب على محاورها ومقابلة قيمتها المعرفية بما لدى الأمم الأخرى.

في أعمالك الشعرية وتحديدًا في ديوان «البسي شالك الأخضر وتعالي» و «خماسية المحنة» تجاوز واضح لانصراف الشاعرة عن الوقوف عند المحطة الوجدانية أو قصيدة الخاطرة بمَ تفسرين ذلك؟

ـ هذه ملاحظة مهمة، فالمرأة كثيرا ما تبقى ثاوية في ذلك الركن الوجداني الذي أظنه أمرا طبيعيا في بداية تجربتها الكتابية ، لكن بعد أن تعمقت خبرتها العملية وخاضت تجارب حياتية ذات فضاءات واسعة كان لتجربتها أن تتسم بأفق أوسع. إن التجربة الوجدانية مهمة في الشعر مادام الشعر فن مشغله الذات حيث تتشكل التجربة الفنية في صميم الشاعرة والشاعر، لكن تلك التجربة لن تكون بمنأى عن الخارج الذي منه تنطلق الإشارات للمخيلة التي تحلل وتركّب والتي تعطي بدورها الاشارات لخلايا التشكيل اللغوي التي ستعبّر عن الصور بالكلمات والجمل الشعرية لكن علينا الاعتراف ان خروج المرأة لمحنة الحياة المركّبة وكتابة المحنة شعرا ليس بالأمر السهل، بل تم بمكابدة. أما مقولة الشعر تحتاج اللغة وفنونها، فهي مقولة ساكنة بلا جناحين وعقيمة لأن نبض اللغة يكمن في حياتها وفاعليتها ومواكبتها للوقائع.

سلوك المثقف

] كيف تجدين سلوك المثقف العربيّ بعامّة والعراقي بخاصة خلال هذه المرحلة الحرجة؟

ـ الثقافة في العراق، لم تعد مسمىً فكريا ذا مقاصد وأهداف راقية، بل صارت موقعاً سياسياً وبراغماتيا وليس موقفا وانتماءً وطنيا، فالمثقفون والأكاديميون، اليوم، ثلاثة، واحد غادر العراق حين لاحقته الرصاصة، وثانٍ متهافت حول السلطة، يتلوّن حسب الطلب ويتصدّر المجالس في المراحل كلها، وثالث بقي قلماً يقاوم بما يمتلك من طاقة، فحوصر وهُدِّد وقُتل.

لا يوجد في العراق اليوم مشروع ثقافي يجتمع فيه المبدعون والاكاديميون والمثقفون الحقيقيون والإعلاميون التنويريون ليحملوا صوت العراق الموحد عبر بيان واحد يطالب بإقالة برلمان سرقهم ونهب شعبهم، وإسقاط دستور صنعه الأميركي خصيصا لتمزيق نسج مجتمعهم بعار المحاصصات الطائفية والعرقية الذي نتج عن ذلك العار والذي غزا الإعلام بجهله وهمجيته، لكن هذا الموقف المنتظر لن يكون في ظل غياب الديموقراطية واحترام الحريات والإخلاص لشرف الكلمة، لأن الموت المجاني سيكون مؤكدا، ولأن الرصاص سينهال على المثقفين كما انهال على شباب التظاهرات السلمية في بغداد والموصل والأنبار والحويجة ومدن العراق كافة.

] وما الحل وسط كلّ هذه الفوضى؟
ـ لعلَّ الحل يكمن في انتاج ثقافة جديدة فاعلة تعي وعيا ناضجا أن مقتل الشعب يكمن في هذه المحاصصة المشينة بين الطوائف والاثنيات التي قسمت نسيجه قسرا وذبحت فيه روح المواطنة التي تجمع الكل في إطار الوطن الموحد وبظل حكم لا ينتمي لغير العراق وتاريخه وأرضه وحضارته ومصيره المشترك، إن خطورة المرحلة توجب على المثقفين أن ينهضوا بكل طاقتهم لأخذ أدوارهم في التنوير واستنهاض الجماهير الذين لا مصدر للطاقة بدونهم لأنهم أصحاب المصلحة الحقيقية في استعادة بناء وطنهم وشعبهم، ومن ثم العمل على تشكيل رؤى لحل المعضلات الجاثمة على الواقع كما فعل مثقفو العالم.
ومن الجدير القول إن المثقف العربي العضوي لهو ثائر يمتلك قدرة هائلة على الصمود وعلى تقديم تضحيات لا حدود لها، لكنه بحاجة لحيز يساعده على العمل وأدلتنا على ذلك شعراء وكتاب ومفكرون لا يحصى عددهم سجنوا ونفوا.

السفير- أجرى الحوار: عدنان الهلاليّ

السابق
اوروبا ما بين التشدد والترقب تجاه اثينا بعد الاستفتاء
التالي
الامن العام : توقيف 21 شخصاً لإرتكابهم أفعالاً جرمية