يوميات معتقل 11: انتفضنا طلبا للدفء وكنا نسرق نصف سيجارة

سجين
لم يكن أمامنا إلاّ خلق الفوضى والصراخ والضرب بالحجارة، لكي يلبّوا طلباتنا بعد أيام وليالي من النوم تحت زخّات المطر، فأحضروا لنا الخيم الشتوية والجاكيتات والمدافئ، حتّى شعرنا ولأول مرّة بكم من الراحة، بعد أربعة أشهر من الجحيم.

حياة الليل في المعتقل كانت في الأشهر الأربعة الأولى جحيماً لا تطاق، كان علينا الإنبطاح أو النوم منذ غروب الشمس حتى الصباح.

مع بدء فصل الشتاء بدأت مياه الأمطار بالدخول إلى خيمنا، تبلّل كل شيئ، كنّا ننام تحت زخّات المطر الغزيرة، أصبحنا وأشياؤنا مبللين بشكل دائم… لا مكان للإختباء من المطر أو الرصاص داخل ذلك القفص سوى في داخل قمصاننا الكاكية العسكرية…

إشتعلت الفوضى من تلقاء نفسها في ليلة شتوية باردة وماطرة، خرجنا جميعاً من خيمنا وبدأنا بالصراخ والضرب بالحجارة على جرن المياه المعدني… حالة هستيريا أصابتنا جميعاً، فكان القرار: الهجوم على الأسلاك الشائكة ومحاولة نزعها، وبالتالي الموت قتلاً، أو إجبارهم على تركيب خيم جديدة ومدافىء وإحضار ألبسة شتوية.
في خضم الفوضى حضر قائد المعسكرات ووعدنا بتحقيق المطالب بأسرع ما يمكن، شرط إلتزامنا بالهدوء والعودة إلى خيمنا، في اليوم التالي أعطونا خيماً شتوية جديدة وجاكيتات كحلية اللون. بعد يومين أحضروا لكل خيمة مدفأة، وحرصوا على إمدادها بمواسير مازوت من خزان في الخارج.

تغير كل شيء، أصبحنا نملك القدرة على السهر كما نشاء، النوم عندما نشاء والتحرك ليلاً كما نشاء، أصبحنا نملك خيمة لا تدخل إليها الرياح ولا يصل إلى داخلها المطر.

“على الأقل ستخفف جوانب الخيمة من دخول رائحة فضلاتنا من تلك الحفرة اللعينة“، قلت بفرح حيث كانت حينها تفيض بشكل دائم بسبب مياه الأمطار!

إخترت وابن عمّي علي إحدى الزوايا كمستقرّ لنا، إلتصقنا في تلك الزاوية في شهور الشتاء كلّها، إلتصقنا وتشاركنا الغطائين، تشاركنا لأننا تعودنا ذلك منذ الصغر، فبيوتنا في جرجوع أيضاً متلاصقة.
شمالاً تحدهما كنيسة مار جرجس وجنوباً جامع محمّد الظريف، إلتصقنا لأننا أبناء زاروب واحد، تشاركنا لأننا تعودنا اللعب سوياً منذ الصغر على بيدر القرية وفي أزقتّها أو على ضفة نهرها. إلتصقنا لنحمي أنفسنا من برد لا يرحم وجوع لا يرحم… ولأننا تعودنا في طفولتنا على فقر لا يرحم!

أحد الأسرى كان يدّعي معرفته بحركة القمر والنجوم، لذلك أخذ على عاتقه رفع الآذان في كل فجر، ليقوم المصلّون في معسكرنا وفي المعسكرات جميعها بأداء فروضهم.
في إحدى الليالي سهرنا إلى منتصف الليل تقريباً، وكان الجميع قد خلدوا إلى النوم، تسللت خارجاً وبدأت برفع الآذان بصوت عال ومن ثم عدت مسرعاً إلى زاويتي. بعد قليل بدأ المئات بالخروج من خيامهم للوضوء والصلاة، ما أدهشنا وأضحكنا أكثر هو خروج ذلك المؤذن لأداء واجبه، وهو يؤنب نفسه بسبب عدم قدرته على الاستيقاظ في الوقت المناسب…

على زوايا تلك الخيمة الجديدة ثمة أربعة سحّابات، من سترتي الكحلية الجديدة المعلقة فوق زاويتنا، وفي إحدى الليالي فقدت نصف سيجارة، كنت قد احتفظت بها لصباح اليوم التالي. توصّل علي إلى نتيجة حاسمة: أحدهم فتح السحّاب من الخارج ومدّ يده بحذر إلى داخل الجيبة.
قررنا بعدها السهر يومياً للتعرّف على الفاعل، وفي منتصف إحدى الليالي نشعر بحركة السحاب وهو يرتفع بحذر شديد، يد تمتد ببطء إلى الداخل، علي يمسك تلك اليد بقوّة وأنا أقفز إلى الخارج، لأجد السارق وقد تملّكه الرعب والدهشة. عدت إلى الداخل لأدعو علياً إلى ترك تلك اليد، كانت يد خمسيني نعرفه ويعرفنا، ويزور خيمتنا بشكل شبه يومي!

عندما جهّز الاسرائيليون المعسكرات بتلك الخيام الجديدة أدركنا بأن “إقامتنا” داخل المعتقل ستطول… وهكذا كان!

السابق
في عيد ميلادي: بعد الثلاثين.. تضيق الأحلام فنخلعها
التالي
تركيا تتحدث عن «تأخير طفيف» في برنامج تدريب المعارضة السورية