مابين جبل عامل وسوريا (10/7)

آثار قيِّمة

وفي بعلبك من الآثار القديمة القيمة ما لا يحصى كثرة ومنها الجامع القسيح الخَرِب الذي في وسط البلد من جهة القلعة وهو من أكبر الجوامع ما زالت جدرانه القائمة تدل على عظمته، وكان به مدرسة أو أكثر ولعلها هي التي درَّس بها الشيخ البهائي والشهيد الثاني في المذاهب الخمسة وكان لمدرِّسها مرتَّب من الحكومة العثمانية. وفي رأس العين جامع خرِب أيضاً أصبح – ويا للأسف – محلاً للأقذار وقضاء الحاجات. وحجر الحبلى وهو غربي البلدة قرب المحطة وهو حجر هائل بقي ماثلاً على مقربة من المقلع وهناك آثار كثيرة أيضاً ولم تزل الثكنة التي بناها إبراهيم باشا المصري ماثلة وموضع نزل (بلميرا) الآن كان المسرح الروماني إلى غير ذلك.

القلعة

أما قلعة بعلبك فحدث عنها ولا حرج دخلناها للمرة الثالثة فوقفنا مبهوتين حائرين بتلك العظمة والجلال وظللنا أكثر من ساعتين نتنقّل في أمكنتها ونتأمل في أعمدتها وننظر في حجاراتها الضخمة وعماراتها الفخمة فنقرأ في كل مكان المعجزات الخالد

أبو الفداء

وفي حماة مدرسة للأيتام جعلت مكان مدرسة أبي الفداء ملك حماة على مقربة منها جامعه ومقامه ونقش تاريخه على الجدار الخارجي من مدخل الجامع لكن بعض الكيلانيين هناك محا ذاك الأثر النفيس وطمسه لأنه جعل سلماً لداره من ذاك الجدار.

وأنشئ في حماة ناد أدبي ضم لقاعته طائفة من الكتب ويلقى فيه دائماً المحاضرات وتعقد الاجتماعات وهو من خيرة أندية سورية اليوم. ومجمل القول أن حماة ذات نهضة أدبية علمية يؤنس بها وأصبح فيها كثير من المتعلمين وبينهم أصحاب شهادات من جامعات أوروبا العالمية لكن حماة اليوم محرومة من الطباعة فلا يلفى بها إلا مطبعة صغيرة لا تفي بحاجاتها. وكانت تصدر بها جريدة الهدف لرصيفنا النشيط السيد عبد الحسيب الشيخ سعيد وهو الآن صاحب مكتبة باسم مكتبة الهدف وهناك مكتبة ثانية اسمها (عنوان النجاح) وتصدر في حماة المجلة الزراعية لصاحبها عمر أفندي ترمانيني من شبان حماه الناهضين ومجلته من خيرة المجلات الزراعية، وحماه اليوم مركز لواء لكنه ضيق النطاق ومتصرفها السيد نورس الكيلاني وهو من المعمَّمين وأُسْرة الكيلاني من أشهر أُسَرِ حماه.

نواعير حماة

ونواعير حماة جميلة جداًلها منر بديع وصوت لطيف وقد تفنن الشعراء بوصفها أي تفنن ومما قيل فيها:

وإني على نفسي لأجدر بالبكا           

إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي

وقيل أيضاً:

ناعورة في سيرها قد أصبحت كالحائرة

قد ضاع منها قلبها فهي عليه دائرة

وقيل أيضاً:

أيها السائل عني    سلبوا العادة مني

كنت أُسقى وأُغنى  صرت أَسقي وأغني

وهذه النواعير من صنع الرومانيين. ومنبع العاصي من اللبوة في بعلبك ودعاه البحتري في شعره الاورند كما سماه المعري الميماس فقال:

إذا كنت ذا لب حصيف فلا تقس

بحمصك والميماس دجلة والكرخا

ويتبع حماة قضاء واحد وهو قضاء (سلمية) وجله من الإسماعليين.

سلمية

غادرنا حماة عصر الأربعاء لزيارة المدرسة الزراعية في سلمية وهي من أشهر مدارس سورية والمسافة بينهما زهاء ساعة ونصف في السيارة (35 كيلو متراً) لكن الطريق مهملة فاجتيازها ليس سهلاً. ونزلنا نحن ورفيقان لنا في المدرسة الزراعية وكانت آنئذ العطلة الصيفية بيد أنه كان هناك مديرها توفيق بك الأحدب وبعض مستخدميها فألفيناها حسنة الموقع والبناء تحيط بها أرض واسعة وكروم جميلة، على أن بها بعض النواقص التي تتم تدريجاً وقد شاهدنا بها أنواع الآلات الزراعية من قديم وحديث وقد جهزت بكل ما يلزم للتلميذ الزراعي؛ غير أن العدد الذي يقبل بها محدود وهو ستون تلميذاً فقط وقيمة الرسم السنوي بها ستون ليرة سورية تدفع على ثلاثة أقساط. وقد بنيت هذه المدرسة من مال الإسماعيليين لأن خليل باشا حينما كان والياً على بيروت صادر ستة آلاف ليرة مرسلة لآغا خان في الهند من الخمس وبنى لهم بها هذه المدرسة فكان ذلك من حسناته وذلك سنة 1910م. وقد سهرنا عند القيِّم (القائمقام) واسمه (ميرزا بك) وهو أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالمرحوم كامل بك الأسعد، وقد لقينا منه كل لطف. وزرنا سلمية في اليوم الثاني على عجل فألفيناها بلدة لطيفة وسكانها الإسماعيليون حسنو البزة صباح الوجوه ونساؤهم في غاية التستر والتحجب ولهم مسجد كبير غير منظم وبه مقام لإسماعيل يزورونه. وفي سلمية حديقة للبلدية حسنة الترتيب وتبعد البلدة عن المدرسة نحو ربع ساعة سيراً على الأقدام والطريق جميل جداً.

بدوي الجبل

ثم عدنا يوم الخميس إلى حماة ومنها ذهبنا بالسيارة إلى حمص لنذهب مع القطار إلى طرابلس حيث وعدنا بدوي الجبل أن نوافيه إلى هناك لنذهب معاً إلى بلادهم جبال العلويين أو بلاد العلويين أو دولة العلويين. أخذنا عربة ظهر الخميس وسرنا مسرعين إلى المحطة ولما وصلنا سار القطار فعدنا من حيث أتينا واستحسنا إرسال برقية لجريدة صدى الشعب لإعلام البدوي أنَّا نلتقي غداً بيد أنه لم يحضر حتى مساء السبت بعد ما خاطبناه بالهاتف وضحكنا من نفسنا لأنا اعتقدنا أن شاعراً حدثا يحافظ على وعد أو يفي بعهد وكم وكم خابت الآمال وخانت المرء الظنون.

محطاتٌ عدة

واجتمعنا هذه المرة بممدوح بك الصلح مدير البرق والبريد والمحامي أديب الموصلي وحاكم صلح حمص وغيرهم ممن رأينا منهم كل لطف وعطف. وسرنا بعد ظهر الجمعة وقد شيعنا الإخوان الممدوح والأديب إلى المحطة. وسار القطار بعد الظهر بساعة ونصف فقطعنا في طريقنا عدة محطات وعرجنا على قرى ومزارع ومياه وأنهار وسهول واسعة وبعد ثلاث ساعات أشرفنا على الفيحاء، وسرنا بين تلك الرياض الغناء، وابتهجنا بمرأى البحر الجميل.

طرابلس الشام

أقلتنا سيارة من المحطة إلى نزل رويال ذاك النزل البديع الذي يضاهي أحسن أنزال بيروت نظافة واتقاناً فضلاً عن طعامه الشهي ومناظره الجميلة فألقينا عصا الترحال وما استرحنا هنيهة حتى ذهبنا نبحث عن البدوي العلوي فلم نقف له على أثر وبينما كنا نتمشى في حديقة البلدية التي اتقننا أحسن اتقان حتى أصبحت أحسن حديقة في سورية – احتفى بنا رجل لا نعرفه وسار معنا وذكرنا بأنه رآنا منذ سنتين في بيروت بإدارة الحقيقة، وأصرّ علينا كثيراً أن ينقل أمتعتنا لبيته لنكون ضيوفه ولم يتركنا إلا وأخذ منا موعداً أن نتعشى عنده في الليلة التالية. وقد أبدى من كرم الوفادة ما دلنا على مكارم الطرابلسيين وكرمهم وهو الحاج هاشم وكيل مدير السجن وفياليوم التالي أخذ أمتعتنا لبيته الحاج جمال الملاح صديقنا الأديب الطرابلسي وهو وأخواه مثال الأريحية والمكارم.

أما محمد بك شحادة محاسب اللواء فحدث عن وفائه مع أصدقائه وكرم وفادته ولا حرج. وطرابلس تشبه صيداء في كثير من الوجوه لكنها اتقن من صيداء وأكبر وفيها من الحدائق والبساتين والمياه ما يبهج الناظر ويسر الخاطر. وقد جمعت بين حضارة بيروت ونضارة دمشق وكيف لا تكون مثال الجمال الفتان والحسن والإحسان وهي التي قال بها أبو الطيب المتنبي:

أكارم حسد الأرض السماء بهم

وقصرت كل مصر عن طرابلس

(شؤون جنوبية)

السابق
حزب الله: لكل معركة.. مقام
التالي
الجميل من بكركي: لا تشريع في مجلس النواب في غياب رئيس الجمهورية