جودت نورالدين: لا تعارض بين الدبلوماسية والشعر فكلاهما يستعمل اللغة الثانية

تُصيبك سهام الاعجاب والتقدير مباشرة، فلا يروح من بالك ولا يختفي، ربما لكونه شاعر مرهف الحس، لائق، واديب يُحسن العبارة، ودبلوماسي ليس كعهدنا بهم،. لا تظهر سنين التجربة في تجاعيد، بل في معرفة وثقافة وغوص عميق في شتى الفنون. ربما هي من نعم الهوا الجنوبي او من نعم التزاوج الثقافي ما بين اوروبا وافريقيا واميركا ولبنان.. أساحر هو؟ أم انه الشعر وسطوته والادب وفنه؟

بداية، توجستُ اللقاء به هربا من تصنّع ما، لكني ومنذ التقيته هالتني شخصيته الفريدة.. فشكرتُ الله على اني تعرفتُ على الشاعر جودت نورالدين، ولو متأخرة. كان اللقاء وكان الحوار مع ابن بلدة خربة سلم الجميلة بمناخها الذي ترمي به كالشلالات على نفسية ابنائها.

ما هو الذي دفعك في منتصف القرن الماضي لان تهتم بالعلم في بلد اهمل المناطق النائية، لدرجة ان ابنائها وُسموا حتى الامس القريب ولفترة طويلة بالمغبونين؟

الى حد ما كان لنا حظ في خربة سلم حيث كان لي استاذ يدعى محمد زريق من بلدة شقرا علمّ في مدرسة الخربة التي كان فيها معلمَين فقط وأسس لصف خامس ابتدائي “سرتفيكا”، حيث نلت عام 1948 السرتفيكا، وقبل ذلك كان الاستاذ احمد الامين ابن العلامة السيد حسن محمود الامين. والسيد حسن محمود الامين خدم معظم حياته المهنية -اي 22سنة  من اصل 38- في خربة سلم، لذا فهو يُعد ابن الخربة. واجمالا بيت الامين أشعوا في كل المناطق. فالجو كان مناسبا للتعلم وعميّ الشاعر السيد حسين علي نورالدين وهو من الاعلام الخمسة الذين تناولتهم في كتابي “اقلام واعلام من قريتي”. وهو محبّ للعلم وهو من المداومين على ديوانية السيد محمود الامين انذاك. وكان هناك جو عام محبّ للعلم، اضافة الى الجو الجنوبيّ العام. وبعد مرحلة “السرتفيكا” انتقلت الى مدرسة حوض الولاية ببيروت ونلتُ شهادة “البريفيه” ومنها الى دار المعلمين حيث كان والدي يعمل في مهن متعددة محب للعلم والمعلمين ولكنه كان محدود الدخل، ومع ذلك كان يشتري البردقان ويوزعه على التلامذة عندما كنت احصل على المرتبة الاولى بالصف رغم اني كنت من المتفوقين على الدوام، وكنت قد علمّت في مدرسة جويا بين 1957 حتى العام 1962. كنت انويّ ان اتخصص في العلوم التربوية، لذا ذهبت الى بلجيكا بمنحة لمدة سنة من اجل دراسة التربية الحديثة عبر  منحة من منظمة اليونسكو ووزارة التربية والبعثة العلمانية الفرنسية، ولم يكن هناك في لبنان جامعات بل كان هناك مدارس لغات فتخصصت في علم النفس،التخصص العالي في التربية لم يكن متوفراً في الجامعة اللبنانية أو الجامعة اليسوعية، وربما كان متوفراً في الجامعة الأميركية ولكني لم أكن وقتها أحسن الإنكليزية لأتوجه إليها. درست في الجامعة اللبنانية وتخرّجت عام 1961 تخرجت في علم النفس من جامعة ليون بفرنسا (عبر مدرسة الآداب العليا في بيروت). أما من الجامعة اللبنانية، فقد تخرجت في العلوم الإجتماعية سنة 1963. ووقتها اعلنت وزارة الخارجية اللبنانية عن مباراة للدخول في السلك الدبلوماسي، ولان شهادة علم النفس كانت تعادل شهادة الحقوق، وكان وقتها الرئيس فؤاد شهاب قد اسس عدة مؤسسات، التي لولاها لما دخلت الى الخارجية التي كانت مقتصرة على العائلات الارستقراطية. دخلت الى وزارة الخارجية من ضمن مجموعة مؤلفة من خمسة اشخاص فقط وكان الدخول الى الخارجية يمر كما يقال من المسرد الى الغربال الى المنخل. إن أهل قريتي، كانوا في أحاديثهم يدعونني سفيراً منذ أن دخلت إلى السلك الخارجي كملحق سفارة سنة 1962.

هل انتسبت الى خط سياسي معين في ظل انتشار تيارات قومية عربية وناصرية وبعثية ويسارية ماركسية، وغيرها؟

مع اطلالة عام 1952 حتى العام 1960 كانت المنطقة تغلي وكان عبد جمال الناصر في عزّه في مصر، وفي سوريا كان البعث وفي عام 1955 وقع العدوان الثلاثي على مصر وانطلقت الثورة ضد شمعون واعلن عن حلف بغداد الذي اراد ادخال لبنان في الحلف ما دفع الناس الى الثورة وبعدها انطلقت ثورة 1958 ومنها الوحدة المصرية-السورية 1958 التي استمرت حتى العام 1961. وسط كل هذا الغليان العام كنت هذه المرحلة مرحلة التعليم والتربية ولكني تأثرت بالجو، في ظل التيارات القومية العربية والناصرية والبعثية واليسارية والماركسية التي كانت المنطقة تغلي بها، ولاسيما بسبب العدوان الثلاثي على مصر وقيام الوحدة المصرية السورية وثورة الـ58 في لبنان، تأثرنا بذلك الجو، فكنا من المؤيدين للتيارات اليسارية التقدمية ولأفكار التحرر الوطني والقومي من الإستعمار، وكنا من الملتزمين بالإنسان أولاً وآخراً . لم انتم الى اي حزب، وان كنت ضد الاستعمار لانه اذا كنا مؤمنين حقيقيين يجب ان نكون مع افكار التحرير. ففي كلمة للامام علي لعامله على البصرة مالك الاشتر، الذي قتله معاوية بتسميم العسل، قال:”الناس اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق”، لذا انا التزم  بالانسان وليس الدين هو في الشكل اوالقشور.

الادب أخذ حيّزا من عالمك، هل تراه كان متنفسا لك في عالم الدبلوماسية الفج؟

كلمة متنفس تعني انه خلق معنا، انا احب الادب والشعر قبل التعليم والدبلوماسية، فالدبلوماسية حضرت فيما بعد. ولما كنت معلما واستاذا جمعت كل اشعاري في “ديوان الورد” اي ما كتبت بين 1952 حتى 1990. وبالمناسبة اقول ان لا تعارض بين الدبلوماسية والشعر لسببين اساسيين، الاول انهما يدعوان للسلام والمحبة والتواصل بين البشر، ومن وجهة نظري كلاهما يستعمل اللغة الثانية، اللغة المنتقاة، وليس اللغة العادية. واما الشعر فيستعمل كلغة ثانية، وكذلك الدبلوماسية تستعمل لغة اخرى اللغة الفنية.

ماذا تعلمتّ وما حملت من البلاد التي عملت فيها كسفير؟

“سافر ففي الاسفار فوائد خمس” كما يقال. فالسفر والاحتكاك بالحضارات الاخرى يضيف انسان الى انسانيتك، فتصير انسان جديد بالفن، واشتراك الافكار، وتصبح واقعيا. ولكن طبعا مع عدم التخلي عن حب الوطن. وهذه هي رسالة الدبلوماسية الحقيقية اي التزاوج بين الاخلاق والدبلوماسية. وان كان الحق للقوة اليوم، اقول اننا نشهد اليوم استعمارا من نوع جديد، فمعظم بلداننا وخصوصا النفطية منها ما زالت مستعمرة، وهو ما يعرف بالاستعمار الجديد، والا ما كل هذه العمليات والثورات؟. فكل هذه الدول التي تهتم بنا ليس الا من اجل نفطنا واموالنا. والدليل ان الشاه كان ظالما لشعبه، لكن اميركا كانت راضية عنه، وكان يُلقب بشرطي الخليج.

ولكن الحياة المتنقلة ألم تتعبك وتتعب عائلتك؟

كنت اعلم ان العمل الدبلوماسي يفرض علي التنقل من بلد الى بلد، وانه لكل بلد طابعه الخاص، ففي هنغاريا كانت الخارجية حديثة العهد عندما عينت سفيراً في هنغاريا (1994/1995)، لم يكن فيها سفير مقيم للبنان بل كان يرعى الشؤون اللبنانية هناك السفير فوزي صلوخ المقيم في فيينا في النمسا.. اما في ايران فقد كان الامام الخميني متوفى حديثا وتسلم الشيخ رفسنجاني الحكم، وفي الغابون كان ثمة جالية ناشطة. كما ان الوضع في سيراليون كان جيدا حيث كانت البلاد لا تزال مستقرة وكانت الجالية اللبنانية كبيرة ومهمة. وبالنسبة لعائلتي فقد اتخذت في العام 1986، اي منذ ان تخرجت ابنتي من الثانوية العامة، قرارا بارسال ولديّ الاثنين الى فرنسا حيث تعلموا ولا زالوا يعيشون على ارضها. وبالمناسبة نحن ضد الارهاب الفردي، والجماعي، والدولي، وضد قتل الابرياء، اضافة الى اننا ضد النفاق الاعلامي والسياسي.

تأخرت في نشر دوواينك، هل من سبب معين؟

السبب ليس ماديا بالتأكيد، واقول انه ليس ضاراً ان يتأخر الشاعر عن النشر. فاذا كان في شعره شيء مهم فليس لازما تأخيره، واذا لم يكن الشعر مستحقا فلا يكون قد تأخر.جودت نورالدين

هل لك من صلة مستمرة مع قريتك خربة سلم؟

تخصصت بعلم الاجتماع، ومنه درست علم الاجتماع الريفي. وانا ابن ضيعة وتخصصت بتحليل القرية اللبنانية واتخذت قريتي كنموذج لكل القرى، حيث اعددت دراسة سوسيولوحية عن بلدتي خربة سلم بعنوان “قرية الامس في الجنوب- خربة سلم نموذجا” بعد ان اعلن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي عام 1967عن جائزة لأحسن دراسة عن القرية الجنوبية اللبنانية، فشحذت همتي واعددتها وقدمتها في العام 1968.

ما هي هواياتك؟

الخط، والتصوير الفوتوغرافي، وسماع الموسيقى والغناء، والاعتناء بحديقة منزلي في القرية. وطبعا الشعر لانه حاضر في كل شيئ في حياتي كما شاركت في عدد من المعارض بلوحاتي وخطوطي.

ما هو دور المرأة في حياتك الحافلة مهنيا وشخصيا؟

المرأة بالنسبة للدبلوماسي لا بد منها، لانها تُعينه في حياته الدبلوماسية ولاجل العلاقات التي يفرضها العمل. وطبعا أثرّت المرأة في حياتي، واذا قلت غير هذا اكون انسان ناقص وغير طبيعي، فالحياة المهنية مهمة فكيف بالحياة الشخصية؟. أن 34 سنة من أصل 39 في الدبلوماسية (من إجمالي 44 في خدمة الدولة) كانت برفقة المرأة”.

من هو جودت نورالدين؟

جودت نورالدين، دبلوماسي لبناني تبوّأ مناصب دبلوماسية في بلاد الإغتراب، وهو أديب وشاعر له العديد من الإصدارات الشعرية. ولد في بلدة خربة سلم العاملية في جنوب لبنان عام 1936. وتخرّج من دار المعلمين ببيروت سنة 1955. عمل 7 سنوات في حقل التربية والتعليم. حاز على إجازة في علم النفس من جامعة “ليون” بفرنسا. كما حاز على إجازة ثانية في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية. دخل السلك الدبلوماسي سنة 1962 وتدرّج فيه حتى أصبح سفيراً سنة 1980. عمل سفيراً للبنان في كل من الغابون وسيراليون وإيران وهنغاريا. أحيل على التقاعد لبلوغه السن القانونية سنة 2000. حصل على جائزة الشعر الأولى لمجلة الغربال اللبنانية سنة 1961.

له العديد من المؤلفات الشعرية والادبية وابرز ما تم نشره:

“ديوان الورد” (شعر)- دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1990.

“مع الشعر العربي… أين هي الأزمة؟” (نقد)، دار الآداب، بيروت، 1996.

“القرية الجنوبية” “خربة سلم”، دراسة سوسيولوجية 1970.

“حَـ.. حمار وحـ.. حكيم” (أمثال عربية ومقالات محورها الحيوان، 2008).

“تعليم القراءة بالطريقة الطبيعية” (بالفرنسية 1965).

“كتاب العرب” (محطات مهمة في تاريخهم وحضارتهم قبل الإسلام والمسيحية).

“دبلوماسية وأدب وفن”. (2015)

“مملكتي من هذا العالم”. (ديوان شعر) – بيروت : دار الفارابي، 2010.

(شؤون جنوبية)

 

السابق
مافيا الدعارة: احذروا الحسابات الوهمية على الفيسبوك
التالي
بالفيديو: بيار الحشاش يردّ على خالد الضاهر: «يسوع رح يضربك كفّين»