تعاون مع «الشيطان» خلف ستار: «الموت لأمريكا!»

جون كيري ومحمد جواد ظريف
العلاقة الأميركية- الإيرانية مرهونة منذ مدة طويلة بمصالح الطرفين، وتقاسم نفوذهما في المنطقة. إيران تريد أن تكون اللاعب الأقوى في الإقليم، وهي لا زالت تستخدم ملفها النووي في هذا المسار، في حين أن الولايات المتحدة ومعها "إسرائيل" لا تريد للنفوذ الإيراني أن يكون على حساب المصالح الأميركية في منطقة حساسة جداً من هذا العالم. وما تطلبه إيران اليوم هو اعتراف أميركي بنفوذها في المنطقة، وتفاهم على الملفات المشتركة، وتعاون فيما يخدم مصلحة الطرفين، وإلا فإن البديل هو مجموعة من الحرائق التي لا يمكن إطفاؤها.

بقدر ما يبدو شعار “الموت لأميركا” قوياً، بقدر ما تدرس إيران مصالحها بـ “براغماتية” عالية، وبقدر ما يبدو وصف “الشيطان الأكبر” راسخاً في الأدبيات الإيرانية، بقدر ما تستفيد إيران من هذا الشيطان، وتتعاون معه!. هذه الحقائق لم تعد أسراراً كما في السابق، وكشفها لم يعد فضائح كما كان أيام إيران-كونترا (Irangate-1985)، وحجمها بات مشاهداً وملموساً بما لا يمكن لأي شعار ساتر أن يحجبه… ومع ذلك تبقى الشعارات المعادية لأميركا و”إسرائيل” حاجة للثورة الإيرانية  داخلياً، و”بروباغندا” مطلوبة خارجياً.

أما في السياسة، فإن العلاقة الأميركية- الإيرانية مرهونة منذ مدة طويلة بمصالح الطرفين، وتقاسم نفوذهما في المنطقة. إيران تريد أن تكون اللاعب الأقوى في الإقليم، وهي لا زالت تستخدم ملفها النووي في هذا المسار، في حين أن الولايات المتحدة ومعها “إسرائيل” لا تريد للنفوذ الإيراني أن يكون على حساب المصالح الأميركية في منطقة حساسة جداً من هذا العالم. وما تطلبه إيران اليوم هو اعتراف أميركي بنفوذها في المنطقة، وتفاهم على الملفات المشتركة، وتعاون فيما يخدم مصلحة الطرفين، وإلا فإن البديل هو مجموعة من الحرائق التي لا يمكن إطفاؤها.

تاريخ حافل… بالتعاون

خلف هذه السياسة الإيرانية ثمة الكثير من “التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة” (العبارة مأخوذة من عنوان كتاب صدر في العام 2009 لمؤلفه الإيراني-السويدي تريتا بارسي)، والكثير من العروض الإيرانية للتعاون مع “الشيطان”، قبل الغزو الأميركي لأفغانستان وبعده (التسهيل الإيراني لغزو أفغانستان معروف وموثق بتصريحات إيرانية رفيعة)، وسعي إيران لتكون شريكاً في محاربة “الإرهاب” إلى جانب الولايات المتحدة أكيد، أقله منذ أيلول 2001، والتعاون الأميركي-الإيراني إبان وبعد الغزو الأميركي لإيران موثق (يمكن مراجعة مذكرات كل من: ديك تشيني ودونالد رامسفيلد في هذا الخصوص)، فضلاً عن “التمجيد” الإيراني لهذا التعاون من باب التسويق الإقليمي (نائب رئيس الجمهورية الإيرانية محمد علي أبطحي في العام 2004: “لولا المساعدة الإيرانية، لما نجحت أمريكا في غزو العراق وأفغانستان”، وتصريحات مشابهة للرئيسين خاتمي ونجاد، ولهاشمي رفسنجاني)، مضافاً إليها الاجتماعات العلنية، التي جرت لاحقاً في العام 2007 بين السفيرين الإيراني والأمريكي في بغداد بهدف “تحقيق الأمن في العراق”، والمبادرة بالاعتراف باحتلال العراق، وزيارة المنطقة الخضراء تحت الاحتلال وبرعايته عبر وزير الخارجية آنذاك كمال خرازي، ولاحقاً عبر الرئيس أحمدي نجاد نفسه (2008).

باستحضار هذا التاريخ الحافل بالتعاون، لا يبدو مشهد المحادثات بين وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف ونظيره الأميركي جون كيري في مسقط قبل أيام غريباً، كما أن إعلان كيري بأن المفاوضات “لا تشكل اتفاقاً أو مساومة من أي نوع على صلة بالأحداث الجارية في الشرق الأوسط” ليس غريباً أيضاً، لجهة كشفه السعي الإيراني لاستعمال الملف النووي كورقة مساومة حول النفوذ الإيراني في المنطقة، على ما أكده رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بالتزامن مع هذه المحادثات، بقوله، إنها في حال نجحت فـ “يمكن أن تكون لها انعكاسات إيجابية في المنطقة”.

وأكثر من ذلك، فإن المشاهد المتقدمة تجعل خبر توجيه رسالة قبل أيام من الرئيس الأميركي باراك أوباما للمرشد علي خامنئي – سبقها رسائل- مفهوماً وعادياً، وهو يُظهر أن الولايات المتحدة تفكر بمصالحها – كما إيران- مع فارق أن أميركا لا ترفع شعارات استهلاكية، تخالف السياسات المعمول بها، كما تفعل إيران منذ الثورة وحتى اليوم (سبق لصحيفة الاندبندنت البريطانية أن كشفت بالتفاصيل عن جولات كثيرة من المحادثات السرية الأميركية- الإيرانية، في أماكن مختلفة من العالم، وبتسهيلات قدمها معهد استوكهولم لأبحاث السلام).

جغرافيا التعاون المشترك

غداة سقوط صنعاء بيد الحوثيين صرح النائب المقرب من المرشد علي رضا زاكاني أن صنعاء هي العاصمة العربية الرابعة التي أصبحت بيد إيران” (بعد بغداد وبيروت ودمشق). معتبراً أن “منطقة الشرق الأوسط تتجه الآن إلى تشكيل قطبين أساسيين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من العرب، والثاني بقيادة إيران والدول التي انخرطت في مشروع الثورة الإيرانية”. وللمفارقة فإن البلدان الأربعة التي تمثلها هذه العواصم، تشكل ساحات تعاون (يتخلله تصادم أحياناً) بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران!.

أولاً: شكّل العراق – وما يزال- أهم وأكبر ساحة للتعاون الأميركي- الإيراني، فمنذ مؤتمر لندن في العام 2002 وحتى اليوم، أدوات إيران العراقية هي التي تصنع التنسيق المشترك مع الولايات المتحدة (على سبيل المثال: طالب آل الحكيم في مؤتمر لندن أميركا بـ “إنهاء تلاعب النظام العراقي وإسقاطه بالقوة”). ما جرى بعد ذلك كان تقاسم للمصالح، فتشكل مجلس الحكم الانتقالي، وأُقر قانون بريمير، وحُل الجيش وباقي مؤسسات الدولة العراقية، وسيطرت الميليشيات التي كانت تستقبلها إيران في أراضيها، وتشكلت حكومة الجعفري (2005-2006)، وبعدها حكومة نوري المالكي (حزب الدعوة)، التي شكلت الغطاء لـ “فرق الموت”، وأبغض الممارسات الطائفية، التي أنتجت “داعش” وأخواتها (في شهر تموز الماضي، وقبل سقوط المالكي، نشرت صحيفة الحياة نص محضر الاجتماع بينه وبين وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وبينما كان كيري يحمّل مسؤولية تنامي الإرهاب إلى سياسة المالكي قال الأخير: “من دواعي سرورنا أن يزور العراق معاليكم لتطّلعوا في شكل مباشر على خطر الإرهاب… نثق بأصدقائنا وحلفائنا الأميركيين ونشكركم لهذه الزيارة”). وما تزال إيران على تعاونها مع الولايات المتحدة في العراق، ففيما يقصف التحالف الغربي-العربي داعش من الجو، تقوم الميليشيات العراقية – المدعومة إيرانياً بالقتال على الأرض، وفيما تعلن إيران استهزاءها بالتحالف ضد داعش، يقوم حلفائها بالتنسيق مع هذا التحالف واستقبال مزيد من المساعدات الأميركية للجيش العراقي.

ثانياً: بعد سنوات من دعم الظاهرة الحوثية في اليمن، بات لإيران ذراعها الخاص، الذي مكّنها بعد الثورة اليمنية في العام 2011 من التوسع العسكري واحتلال المدن اليمنية الكبرى، بما في ذلك العاصمة صنعاء. ودون الدخول في تعقيدات المشهد اليمني فإن ما يعنينا في هذا المقام أن المصالح الأميركية لم تتعرض للخطر، وكذا السفارة الأمريكية، رغم أن شعار جماعة الحوثي هو: “الموت لأمريكا”… بالمقابل فإن الولايات المتحدة لم تدن سقوط العاصمة صنعاء بقوة السلاح، ولا السيطرة على مخازن السلاح، ولا التمدد نحو باقي المحافظات، ولا الأعمال الإرهابية لجماعة الحوثي بحق خصومهم السياسيين، بل إن الواقع الميداني يظهر بوضوح تعاوناً مشتركاً بين الحوثيين على الأرض والقوات الأمريكية في الجو، في مقاتلة تنظيم القاعدة، الذي انتعش بدوره بسبب سيطرة الحوثيين وتقهقر القوى التي كانت تقف في وجههم.

ثالثاً: مهّد التحالف الإيراني مع نظام البعث في سوريا لتمدد النفوذ الإيراني في دمشق، لا سيما أيام الرئيس بشار الأسد، ولما واجه الأخير ثورة شعبية منتصف آذار من العام 2011، وقفت إيران إلى جانبه، لدرجة أصبح معها الأسد ونظامه وسوريا كلها ورقة بيد إيران، ووفق تصريحات علي زاكاني الشهيرة فإنه “لو لم يتدخل الجنرال قاسم سليماني تجاه الأزمة السورية، ولم نتدخل عسكرياً لسقط النظام السوري منذ بداية انطلاق الثورة”. المفارقة هنا أن الولايات المتحدة الأميركية تصر إلى اليوم على أولوية مقاتلة داعش وأخواتها، وهي لم تقصف من الجو إلا التنظيمات المتشددة التي تقاتلها الميليشيات المدعومة من إيران إضافة إلى الحرس الثري الإيراني، وهي التنظيمات التي لم تكن لتصبح بهذا الحجم لولا غض الطرف الدولي عن حليف إيران، الرئيس بشار الأسد، وتركه يمارس الإرهاب، والامتناع عن فرض منطقة حظر جوي تسرع سقوطه.

وفقاً للوقائع المتقدمة التي تُظهر التقاطعات المصلحية بين إيران و”الشيطان الأكبر”، يصبح مفهوماً أكثر كلام رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري قبل أيام، وكلاهما يربطان بين التسوية في الملف النووي الإيراني، وتالياً التقارب الإيراني- الأميركي وبين تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان!

أليس لافتاً اليوم أن يصبح “حزب الله” – الإرهابي وفق النظرة الأميركية- رافعاً للواء الحرب على “الإرهاب”، بما يجعله يلتقي في السياسة وعلى الأرض مع الحرب الأميركية على التنظيمات السورية المتشددة، وأنه يقاتل في غير منطقة في سوريا تحت غطاء غارات التحالف على أعدائه “التكفيريين”، وأنه انتقل من لعن كل من يلتقي مبعوثاً أمريكياً إلى مباركة أي تواصل أو دعم من الأمريكيين، ما دام ذلك يخدم معركته الكبرى ضد هؤلاء “التكفيريين”؟!

السابق
هل يقود قاسم سليماني إيران بعد خامنئي؟
التالي
حوار المستقبل – حزب الله.. هل يكون صورة تذكارية؟