مقاتلو «جمّول» في صيدا يتذكّرون.. ويروون أين صاروا

جورج حاوي
بعد النضالات الكبيرة ضد العدو الاسرائيلي في الثمانينيّات، حلم المقاومون آنذاك أن تتشكّل المقاومة الوطنية كرافعة تعيد توحيد الوطن والشعب. واليوم ماذا يقول بعض المقاومين عن تجربتهم تلك؟

في مثل هذا اليوم، في 16 أيلول 1982 دعا الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم اللبنانيين إلى حمل السلاح دفاعاً عن الوطن ودحراً للاحتلال الإسرائيلي الذي اقتحم العاصمة بيروت آنذاك، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال ضد العدو الإسرائيلي، تستند إلى مراحل سابقة من المقاومة منذ عام 1936. واليوم تحتفل قلة من اللبنانيين وفي أماكن متفرقة من الوطن بهذه المناسبة.

وشهدت مدينة صيدا، التي استمر فيها الاحتلال من 6 حزيران 1982 إلى 16 شباط 1985، تجربة مقاومة فريدة من نوعها، اختلط خلالها النضال المسلّح بالموقف السياسي الحاسم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. فخاضت المجموعات الفدائية المسلحة معاركها جنباً إلى جنب، وحمل الشيوعي والناصري والقومي العربي والإسلامي السلاح دفاعاً عن الوطن، وسقط شهداء في صيدا من أرجاء الوطن كافة. ترافق ذلك مع نضال سياسي رفض الاحتلال والتطبيع معه، وأصرت القيادة السياسية على عدم التسليم بالاحتلال وما أفرزه من نتائج على الأرض.

حلم المقاومون آنذاك أن تشكل المقاومة الوطنية رافعة تعيد توحيد الوطن والشعب. واليوم ماذا يقول بعض المقاومين عن تجربتهم؟

بلغ ع.أ. الخمسين من عمره اليوم. يعمل في مجال التمديدات الكهربائية، يروي لـ”جنوبية” قائلاً: “كنت في الثامنة عشرة من عمري، عندما احتل الإسرائيليون صيدا شعرت بالذل ّوالهوان، لكّن انتمائي الوطني دفعني إلى السعي أن أقدّم شيئاً إلى الوطن، فكانت مشاركتي في القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي. وساهمت في عمليات عدّة، كان أبرزها رمي قنبلة كادت أن تصيب شارون نفسه. مع العلم أنّني لم اكن أعرف أنّه في الموكب الذي استهدفناه. وقد سررت جداً بعد إعلان نبأ محاولة اغتياله. كنا نعمل من أجل إزالة الاحتلال. وما زلت حتى اللحظة جاهزا للمقاومة إذا ما حاولت إسرائيل إعادة احتلال المدينة. وكما أن لحظة الموت هو الحقيقة المطلقة فإن إسرائيل هي الشر المطلق”.
يصمت لحظات، ليضيف: “كنّا نأمل أن يسفر انتصارنا عن اتفاق وطني يعيد اللحمة بين الناس، لكن للأسف لم يحصل ذلك، لكنّني فخور بتجربتي وبقائي خارج الخطاب الطائفي السائد. وأدفع أبنائي ليكونوا في نفس موقعي الوطني اللاطائفي”.
ويقول ش.ف. الذي يعمل حالياً عامل بناء: “كان عمري 21 عاماً عندما احتلت إسرائيل صيدا، وكان من الطبيعي أن أحمل السلاح مع رفاقي دفاعاً عن الوطن. في تلك اللحظات لم نفكر بأنفسنا، ولا بمستقبلنا، كان المستقبل بالنسبة لنا دحر الاحتلال، لذلك كتبنا على جدران المدينة: الوطن باق والاحتلال إلى زوال. أروي لأبنائي تجربتي وتجربة رفاقي الآخرين، وأشرح لهم ما عانيته أثناء اعتقالي كي لا ينسوا الخطر الذي تمثله إسرائيل علينا. كانت أحلامنا وردية، نحلم بوطن للجميع، بمواطنين متساوين، للأسف، أشعر بالخيبة لما وصلنا إليه، ولكن إذا عاد الاحتلال الإسرائيلي لا مجال أمامي سوى مقاومته بالوسائل التي يمكن القيام بها. ويتذكر إحدى العمليات التي قام بها مع اثنين من رفاقه عندما قتلوا الحاكم العسكري (سام) وجرحوا مرافقه في مدينة صيدا.
أما ن.ع.، وعمره 51 عاماً، فيعمل حالياً في أحد مطاعم العاصمة بيروت. يوضح لـ”جنوبية” أنّ مشاركته في المقاومة “كان السبب الأساسي منها هو التربية التي تلقّيتها في منزل أهلي، كان والدي يحدثنا دائماً عن الخطر الإسرائيلي وضرورة مواجهته، كنت أشعر بانتمائي الوطني الذي تبلور بالممارسة ضد الاحتلال. في إحدى العمليات شعرت بالخوف عندما استطاع العدو الإسرائيلي اعتقال اثنين من المجموعة فيما استطعت الفرار، وبعد فترة استعدت قدراتي وأكملت عملي المقاوم”.
لكن هل يعيد الكرّة اليوم؟ يصمت برهة، ويجيب بعد تردّد: “لا أعرف، ممكن، لا أعرف ماذا يكون موقفي، أنا قرفان من الوضع الذي أوصلنا إليه الزعامات الطائفية، لقد مزقفوا الوطن، وكسروا الحلم واستبدلوه بكابوس طويل. ما اعتبره انتصاراً الآن هو نجاحي بدفع أبنائي ليكونوا خارج الاصطفاف الطائفي في البلد”.
عندما بدأت الحديث مع ج.ع.، لمحت دمعتين في عينيه. إذ تذكّر الشهيد فضل سرور، الذي استشهد حين كانا سويّا، في مجموعة واحدة. يبلغ ج. من العمر الآن نحو 57 عاماً. لم يجد عملاً بعد التسعينيّات، فهاجر إلى ألمانيا ليعود بخفي حنين، وحاليا يعمل في المملكة العربية السعودية. يشرح وضعه بالتالي: “هاجرت كي أعيل عائلتي، قناعاتي لم تتغير، ولكن هناك لا أملك سوى الصمت، وأشعر بأهمية وجود منظمات حقوق الإنسان”.
ويتساءل: هل ناضلنا دفاعاً عن الوطن ضد الاحتلال الإسرائيلي كي تستبيحه الزعامات الطوائفية وتستخدمه مساحة لنهبها وتسلطها على العباد. لا أعرف ماذا أفعل إذا عاد الاحتلال الإسرائيلي؟ المهم أن أبقى على قناعاتي ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد النظام الطائفي”.
أ.ج. عمره 52 عاماً. مناضل، قاتل ضد الاحتلال الإسرائيلي، يعمل حالياً في إحدى المؤسسات الاجتماعية. يقول لـ”جنوبية”: “إضطررت للعمل في هذه المؤسسة، وأن أكون على علاقة بأحد التيارات السياسية في المدينة، لكنّني لا أنسى تاريخي ولا أنسى إصابتي برصاص الاحتلال الإسرائيلي، لكن الحياة صعبة وعندي عائلة عليّ أن أهتم بها. لكني وفي أي موقع كنت لا يمكن أن أكون ضدّ مصالح الفئات الشعبية التي أنتمي إليها. وهؤلاء المناضلون يشعرون بأسى ممزوج بغضب عندما يلتقون بأشخاص كانت تجمعهم مواقف ومواقع مناهضة للاحتلال، لكنهم انخرطوا بعد التسعينيّات في تيارات سياسية طائفية لا هم لها سوى الحصول على حصص في “مزرعة” الوطن”.
لم يقتصر النضال ضدّ الاحتلال على حمل السلاح، بل ترافق ذلك مع نضال سياسي صعب لتوحيد وتصليب موقف المدينة ضد الاحتلال الإسرائيلي. يقول و.م. لـ”جنوبية”: “بموازاة العمل العسكري، كنا ننشط في مجالات أخرى نعمل على تعزيز الموقف السياسي الحاسم ضد الاحتلال، لأن النضال العسكري يصير بدون قيمة فعلية إذا لم يرافقه عمل سياسي يدفع إلى موقف مناهض للاحتلال”.
الخلاصة أنّه في أيلول 1984، تكونت لدى الاحتلال الإسرائيلي قناعة أنه لن يربح المدينة بالسياسة، وكان عليه رفع مستوى العنف ضدها، فتم استدعاء لواء غولاني، لكنه أيضاً فشل في تحقيق أي مكاسب للاحتلال ولم يستطع الإمساك بالمدينة. وفي تشرين الثاني 1984 بتنا على قناعة بأنّ العدوّ الإسرائيلي سينسحب من المدينة. الثمن الذي دفعته المدينة كان باهظاً لكن لا يساوي شيئاً أمام أن تكون في وطن حرّ ومستقلّ.

كنّا نناقش ماذا سيفعل الاحتلال قبيل انسحابه، أي مصيبة سيتركها لنا. وكانت المصيبة تقاطع مصالح محلية وإقليمية وإسرائيلية قضت بمحاولة اغتيال مصطفى معروف سعد في 21 كانون الثاني 1985، وعلى الرغم من ذلك استطعنا تحقيق شعار: “الوطن باق والاحتلال إلى زوال”.

السابق
فاديا بزي: هكذا اعتقلني حزب الله حين كنتُ مقاوِمة شيوعية
التالي
لقاء بري – السنيورة يبحث «سلّة» ملفات