عن ديمقراطية المشاهدين.. ديمقراطية وودرو ويلسون

ليست الديمقراطية شيئا يمكن تلخيصة أو شرحه أو الاتفاق عليه. الديمقراطية أنواع، وأبرزها في أيامنا هذه "ديمقراطية المشاهدين"، التي كان أوّل من أسّسها في عصرنا الحديث الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، حين بدأ يتلاعب بالرأي العام عبر "الميديا"، في بداية تكوينها قبل 100 عام.

في عهد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون المنتخب في العام 1916 تحت شعار “سلام بدون إنتصار”، وتحديداً أثناء الحرب العالمية الاولى، كان الشعب الاميركي ضد الحرب، ميالاً إلى الهدوء واللاعنف بل وأكثر فهو (أي الشعب) لم يرى سبباً للانخراط فيها إلى جانب الأوروبيين . فكان لا بد للإدارة حينها من فعل شيء ليتسنى لها الدخول في الحرب إلى جانب الحلفاء، فأسست لجنة عرفت بـ”لجنة كريل”، نجحت في غضون ستة أشهر من قلب مزاج الشعب من الهدوء واللاعنف إلى حالة هستيرية تواقة إلى الحرب، تروج لها وتطالب بالدخول فيها إنقاذاً للعالم كما كان يبث وقتها، مع إصرار على تصوير هذه الحالة وإبقائها أو إظهارها على أنها ديمقراطية على الطراز الحديث، ديمقراطية لا يملك الشعب فيها سوى أن يكون مجموعات من الرعاع، يلتزم توجيهات المفكرين الموصوفين بـ”الخاصة”، مهمتهم الرئيسية منع الشعب من إدارة شؤونه وإبقائه تحت هيمنة صارمة ضيقة تحكم بعناية من خلال سياسة التلقين التي فسرت على انها المفهوم السائد للديمقراطية والديمقراطيين.

اما بعد، وانطلاقاً مما تقدم، يتبادر إلى ذهننا السؤال التالي: من منا في هذا البلد قادر على إدارة شؤونه بطريقة معقولة؟ أو من منا يملك وسائل إعلام مفتوحة وحرّة بالطريقة التي إن فتحت معاجم التفسير وجدت أن إسمها ديمقراطية؟الجواب المنطقي المتجرّد من أيّ إنحياز أو تعصب وجب أن يكون بالتأكيد: لا أحد.   لكن على ما يبدو فإن ديمقراطية ويلسون الثورية التقدمية السائدة في عهده استهوت الجميع فاعتمدت كوسيلة للسيطرة على المزاج العام. هذا الامر دفع بالعديد من الأطراف في لبنان ممن هم قادة، بحكم التراخي العقلي للجماهير، إلى اعتناقها ليقودوا الناس عبر وسائل إعلام خاصة بهم كالمنار، المستقبل، أن بي أن، الأم تي في، الأل بي سي، والنيو تي في… هذا دون إغفال المحطات الدينية الموجهة مناطقياً وفي الاحياء. وهذه الوسائل تدفع الناس إلى حدّ المطالبة بتمزيق المختلف الآخر إرباً، ويوصلون المشاهدين إلى حدّ الجنون الهستيري، يصعب بعدها كما يقال، “إعادة القطيع الى الحظيرة”. وكل ذلك يحدث بفضل مفكرين صنفوا على انهم أخيار، إختاروا العمل طمعاً بأموال المتسلّط وفي فلكه يدورون. هم من أطلق عليهم إصطلاحاً لقب “أعضاء المجتمع الأكثر ذكاءً. على أساس أنهم الوحدون القادرون على دفع الناس الى الحرب واعتناق الحقد والقتل على الرغم من رغبتهم (أي الناس) بالعزوف عنها. وذلك عبر وسائل تخويفهم وإرهابهم وإثارة التعصب الشوفيني فيكونوا وقوق غضب لا فعل لها إلا أن يوصل مستخدمي الديمقراطية الحديثة الى الرياسة. ويبقى أن هدير أقدام الثوار الغاضبين، كحال القطيع، مُهابة، لكنُها غبار كغبار الجو وغثاء كغثاء السيل فهي بالكامل تُدار.

السياسة العامة إذاً صناعة ضخمة جداً، وهي ما ينفق عليها وفي سبيلها مئات المليارات من اليوروهات والدولارت، تُشترى في بعض الدول بملايين الدراهم أو الدنانير والريالات وهمها الوحيد السيطرة على الرأي العام.ففي العام 1935 (كمثال آخر) إستطاع العمال في أعظم دولة تدعي الديمقراطية الولايات المتحدة الاميركية، تحقيق نصر إنتخابي تشريعي كبير بفضل إقرار قانون “ويغنر” القاضي بإنشاء إتحادات ونقابات سرعان ما أدرك خطرها القادة الديمقراطيون، فسخروا منها وسخّروا لها “الخاصّة” من المفكريين، لا لشيء إلا لسببين أساسيين، أولهمت أن ما أقدم عليه (الرعاع) حقّقوا به انتصارا، وثانيا أنّه أصبح بإمكانهم تكرار هذا الفعل وتنظيم أنفسهم، وهذا في الديمقراطية الحديثة يجب ألا حصل. أوجبت الديمقراطية الحديثة أن يكون أفراد الوطن مبعثرين معزولين ووحيدين رغم الجمع وكثرة العدد. الامر استدعى إذن، كما هو حاصل عندنا وفي زماننا، ردّا ديمقراطيا يقضى على هذا التهديد الكبير دون تكسير الركب والأرجل (إذ لم تعد تلك الأساليب نافعة أو لائقة). فاستخدامت وسائل الإعلام والدعاية الذكية مجدداً، وسطعت فكرة تحريض الناس على المعترضين المنظمين المنضوين في الاتحادات ومنهم النقابيين، لإظهارهم كمشاغبين يسببون الضرر والأذى لمصالح العامة، والعامة ومصالحهم هنا ليستوا الشعب بل بالطبع رجال حاكمون متسلطون ونافذون، ومعهم ومنهم وفيهم رجال السياسة وأسياد الخطابة وأئمة اللغة النصيّين، يضطلع بخدمتهم طليعة من المتعلمين ممن أيدناهم بالوقار ووفيناهم التبجيل.

هؤلاء ومن ورائهم جميعهم مذنبين يحرمون الناس القيم الصحيحة بأسلوب يجعل مطلبهم وتنظيمهم لأنفسهم يشبه الرعب الأحمر المهيب. يحرمون “العامّة” حلم الاسرة المتوسطة (القيمة الوحيدة عند معظم المجتمعات تلك التي في مفهومنا هي ان تمتلك المزيد من السلع الضرورية) ويرغمونهم على القول إن ليس في الحياة سوى أن نشاهد المباريات والمسلسلات الترفيهية وحكايات حريم الحكام وأطماعهم والعشق الممزوج بالكره لتقاليدنا وأفلام العنف والأخبار الممنتجة. يدعونهم عند الحاجة لكي ينشدوا معاً شعار “إدعموا حاكمنا” و”لبّيك يا قائدنا”، وإلى أن يلتزموا الطاعة ويلبّوا.تلك هي الديمقراطية النافذة التي أُطلق عليها اسم “ديمقراطية المشاهدين”.

السابق
من يقف خلف خطف العسكريين اللبنانيين؟
التالي
حزب الله يبعد النساء عن مؤسّساته.. فهل يحكمنَ الحزب؟