سلامة كيلة يردّ على فيكتور شمس: النظام السوري ليس طائفيا

سلامة كيلة و فيكتوريوس بيان شمس
كتب الزميل فيكتوريوس بيان شمس قبل أيام ردّا على مقال للزميل سلامة كيلة نشر في "العربي الجديد". وقال شمس إنّ "كيلة وصل لخلاصة مفادها: النظام غير طائفي، وأي حديث آخر يخدمه. عدا عن أن من يقتنع من الشعب برواية “المعارضة الطائفية” طائفي بالضرورة". اليوم يردّ كيلة على شمس في مقال جديد يخصّ به "جنوبية". مؤكدا أنّ "النظام السوري ليس طائفيا بل هو مافياوي عائلي".

منذ البدء أوضح بأنه على الصعيد العملي هناك ممارسات “طائفية” قامت بها مجموعات “علوية”، وأخرى “سنية”، كما أن النظام يستغل العلويين عبر التخويف الطائفي من “طائفة أخرى”، ومن مجموعات “متطرفة أصولية”. ولقد حدثت على الأرض ممارسات تنمّ عن “حقد طائفي”. كل ذلك يختلف عن القول بأن الصراع هو صراع طائفي، فالصراع الدائر في سورية هو صراع شعب يريد إسقاط النظام نتيجة أسباب اقتصادية وديمقراطية. وكل صراع طبقي يمكن أن يتلوث بأشكال من الصراعات “ما قبل حديثة”، مثل الطائفية أو الدينية أو القبلية أو “الإثنية”، لكنه يبقى صراعاً طبقياً. ولهذا لا بد من تلمّس جوهر الصراع، والأساس الذي يقوم عليه، لكي يكون ممكناً فهم الأشكال التي يتخذها. هذه بديهية في الماركسية.
لكن حين نريد توصيف نظام سياسي يصبح من الضروري أن ننطلق من “التحليل المادي” لكي نفهم بنيته والمصالح التي يمثلها، ومن ثم الشكل الأيديولوجي الذي يستخدمه من أجل فرض الهيمنة على المجتمع. وهو ما لا يجعلنا نعتبر بأن الدولة العباسية مثلاً تنحكم لنظام طائفي رغم أن الخليفة كان ممثل الله على الأرض. أو نعتبر بأن الدولة الإيرانية طائفية رغم أنها متحكم بها من قبل “الولي الفقيه”. فالدولة هي “أداة الطبقة المسيطرة”، والنظام هو “نظام الطبقة المسيطرة”، رغم استخدام النظام لأيديولوجية دينية.
هذا مدخل لنقاش نقد تناول مقالاً كتبته “عن الطائفية في سورية” (العربي الجديد 8/5/2014) كتبه فيكتوريوس بيان شمس في موقع “جنوبية” بعنوان: “رداً على سلامة كيلة: النظام عرّاب الطائفية وصانعها“، ينطلق من أن النظام السوري هو نظام طائفي، ويستشهد بتحليل مهدي عامل، وبرأي عزمي بشارة ليثبت بأن رأيي خاطئ. سوف أتناول الاستشهادات أولاً، ثم أتناول نقده لما كتبت.
مهدي عامل: ليست الطوائف طوائف إلا بالدولة

كتاب مهدي "في الدولة الطائفية"
كتاب مهدي “في الدولة الطائفية” هو نقاش مع مجموعة آراء لكتاب ومفكرين حول الدولة اللبنانية والطابع الطائفي الذي يحكمها. لهذا يشير مهدي إلى أنه “ليست الطوائف طوائف إلا بالدولة. والدولة هي التي تؤمن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي، بالدولة وحدها، مؤسسات” (في الدولة الطائفية ص29)، ولهذا فالطائفية “هي الشكل التاريخي المحدَّد الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية” (ص323). وهذا صحيح حيث تشكّلت الدولة اللبنانية على أساس ينطلق من توافق على تقاسم سياسي ووظيفي بين الطوائف معترف به عرفاً، بالتالي نشأت كدولة طوائفية، أي تتركب من تقاسم مسبق بين الطوائف. رغم ان هذا الشكل نتج عن “ميل استعماري” لتأسيس “دولة مسيحية” في الشرق ولم يكن نتاج وضع محلي يفرض هذا الشكل. لكنه بات الشكل الذي يفرض إعادة إنتاج التوازن الطبقي في السلطة على أساس هيمنة “مسيحية”.
مهدي هنا كان يوصّف الوضع الذي يحكم الدولة اللبنانية، والذي كان يفرض إعادة تشكيل الطوائف كطوائف في علاقتها بالدولة (سواء في المستوى السياسي أو في المستوى الوظيفي)، دون أن يعني ذلك انحكام الطوائف للأيديولوجية الطائفية. بمعنى أن “الطوائف” كانت تتشكل في صيغ أخرى فرضها واقع العمل والتداخل السكاني، وتغلغل الوعي الحديث (نشوء أحزاب حديثة). لكن فقط العلاقة بالدولة هي التي كانت “تعيدها” إلى “طابعها” المتوارث. وهو الأمر الذي جعل الصراع الطبقي هو المتحكم في صيرورة الصراع منذ نهاية ستينات القرن العشرين، حيث تصاعدت موجة الإضرابات والاحتجاجات (من ثم بالتزامن مع وجود المقاومة الفلسطينية) لكي تدفع البرجوازية المهيمنة في التشكيل الطبقي الحاكم، أي البرجوازية “المسيحية”، إلى تفجير الصراع على أساس طائفي لكي تضمن جذب الطائفة خلفها في حرب إدعت أنها تهدد وجود المسيحيين في الشرق (كما على اساس وجود المقاومة).
بالتالي فإن مهدي لا يفعل سوى توصيف واقع تشكيل الدولة اللبنانية، ولم يكن يستنتج قانوناً أو يتوصل إلى نظرية. والفارق مهم بين التوصيف والتصور النظري أو القانون، فالتوصيف هو تحديد ما هو قائم في الواقع الموضوعي لكي يكون اساساً لفهم هذا الواقع، أي لكي يجري الانتقال من هذا الشكل إلى الجوهر الذي يحكمه. بالتالي فإن النظام الطوائفي (القائم على تقاسم على أساس الطوائف بين أقسام البرجوازية ذاتها في إطار سيطرتها على الدولة) هو “الشكل التاريخي المحدَّد الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية” في لبنان فقط. بالضبط لأن الدولة اللبنانية هي الوحيدة من البلدان العربية التي تشكلت على أساس طوائفي (قبل أن يجري تشكيل العراق المحتل على الأساس ذاته). ولهذا فإن نص مهدي ليس تعريفاً للطائفية يمكن أن يصبح “قانوناً” يطبق على سورية او أي بلد آخر (ربما العراق الآن)، بل يجب أن يُفهم على انه توصيف فقط، يسهم في تفكيك الأيديولوجية التي تحكم البرجوازية اللبنانية من أجل فك العلاقة بينها وبين “الطوائف” بهدف تأسيس الصراع على أساسه الطبقي.
طبعاً لا أريد نقاش كتاب مهدي، فهذا يحتاج إلى سياق آخر، وأرى أنه ربما كان لتحليل مهدي أثر في تحويل التوصيف إلى قانون وتعريف عام، نتيجة بعض التحليلات الغامضة أو التي تستند إلى فهم “مثالي”.
عزمي بشارة: سورية .. درب الالام نحو الحرية

عزمي بشارة: سورية .. درب الالام نحو الحرية
يتوصل فيكتور إلى “أن النظام، وبشكل مدروس، ضرب مصادر عيش هذه الطائفة لتحويلها إلى احتياط سلطة يستخدمه لحظة يُحشر”، بعد أن يكون قد استشهد بنص من كتاب عزمي بشارة “سورية .. درب الالام نحو الحرية”، يقول النص “في محاولته حكم أغلبية السكان كان على بشار الأسد (ربما هنا حافظ الأسد- سلامة) أن يهمّش الحدود الفارقة بين الأقلية والأكثرية، بحيث لا تظهر الأقلية باعتبارها جماعة طائفية، وبالتالي أقلية. فقضى على مصادر عيشها الأصلية بتحويل اعتماد أفرادها على الجيش والأمن ووظائف الدولة الأخرى. وتطورت عملية طحن الطائفة العلوية باعتبارها كياناً خارج الدولة وتحولت إلى الاعتماد الكامل على النظام والتماهي معه كأنه نظامها” (ص 306).
أولاً يظهر من استنتاج فيكتور بأن “النظام” يريد استخدام الطائفة كأدوات، وهذه لا تعبّر عن طائفية بل تشير إلى عكس ذلك، لأن المنظور هنا هو حماية السلطة… الطبقية، وهذا ما أشرت إليه في مقالي أصلاً من حيث ” ولا شك في أنها عملت على استثارة غريزة الطائفة لكي تستغلها في دفاعها هي عن سلطتها”. إن استخدام السلطة (أو الطبقة المسيطرة) لطائفة أو منطقة أو قبيلة لا يعطيها سمة الطائفية او القبلية أو الجهوية، بل يوضح الآليات التي تستخدمها من أجل الحفاظ على سلطتها الطبقية.
ثانياً إن نص عزمي مرتبك قليلاً، رغم أنه يريد أن يقول بأن النظام أفقر هؤلاء من أجل توظيفهم في الجيش والأمن والدولة لكي يكونوا قوته الضاربة. المناطق العلوية كانت مهمشة ومفقرة قبل استلام البعث، وهذا ما جعل جزءاً كبيراً منها ينخرط في الجيش (ويسمح في الأخير بهيمنة حافظ الأسد)، وحين استلم حافظ الأسد لم يطوّر المناطق العلوية، على العكس أصبح كبار الضباط يستولون على أرض الفلاحين، ويتشبهون بالإقطاعيين السابقين في مواجهة هؤلاء الفلاحين. وفي هذا استغلال طبقي، وعمل من أجل تشكيل قوة تحمي السلطة.
وثالثاً أن حافظ الأسد لم ينطلق من “هدف قصدي” لتهميش الحدود الفارقة بين الأقلية والأكثرية” بل كسلطة مطلقة أراد أن يوجد “القاعدة الاجتماعية” التي تدعم السلطة، لهذا فتح على البرجوازية التجارية ووجهاء المناطق والقرى والأحياء والعشائر، والطوائف. وجنّد في قوته الصلبة من المناطق المهمشة عموماً (دير الزور والجزيرة ودرعا). لقد كان معنياً بالسلطة وبتوريثها، وكان يستخدم من يحقق ذلك. وكان معنياً بان يمسك كل مفاصل المجتمع من أجل ذلك.
ورابعاً لم تتماهى الطائفة مع حافظ الأسد أو مع إبنه لأن وضعها وممارسات العائلة كانت تجعل التناقض قائماً، رغم أن مسك المراكز المفصلية في الدولة من قبل فئات من الطائفة كان يفتح على “وساطات” تشغيل. ولقد ظلت “الحساسيات” قائمة. هذا “التماهي” حدث بشكل ما بعد الثورة لأسباب تتعلق بالسياسات التي مارستها السلطة والقوى الإقليمية والمعارضة، والتي كانت تصبّ في مجرى واحد هو مجرى إخافة الطائفة وتخويفها، وبالتالي التصاقها بالسلطة خشية “الخطر الأصولي القادم لكي ينتقم مما حدث سنة 1980/ 1982”. بالتالي فقد استقطب حافظ الأسد شريحة من الطائفة كانت موضع ثقة (وهنا يجب فهم سبب الثقة، أي هل هو طائفي أو مناطقي، وهو الأمر الذي يفرض استخدام التحليلي السسيولوجي) كما استخدم آخرون من طوائف أخرى (مصير علي حيدر وعلي دوبا، وحتى رفعت الأسد لم يكن أفضل من مصير كل الذين همشهم من الطوائف الأخرى، بل كان مصير خدام وطلاس أفضل).
لهذا ليس صحيحاً الاستخلاص بأن “الطائفية في سورية ليست افتراء بل هي قائمة في نظام الحكم”، لأنه لا يميّز بين “التكوين الطائفي” واستخدام الطائفة، حيث أن غير الطائفي يمكن أن يستخدم الطائفية (كما فعل الاستعمار). أما التكوين الطائفي فهو يتعلق بـ “قوة سياسية” تتأسس على أساس إدعاء تمثيل طائفة ورفض الطوائف الأخرى، مستخدمة أيديولوجية هي اتكاء على موروث الطائفة (تصعيد للوعي التقليدي وغلقه). فنظام الحكم هو نظام فئة عائلية مافياوية تمثّل “رجال الأعمال الجدد” المتحالفين مع البرجوازية التقليدية (التي يسميها محمد جمال باروت عصابة المئة، المتشكلة في شركة الشام القابضة). هنا تحديد ما اشرت إليه في مقالي في تعريف الطائفية، التي تفرض الإنغلاق ورفض الآخر، والتعامل معه كعدو من منظور طائفي ديني، وهذا ما ليس موجوداً في السلطة، بل وجدت محاولات من جميل الأسد، وربما رفعت سابقاً، ويوجد لدى داعش والنصرة وجيش الإسلام وآخرين.
ولا شك في أنه “لا يمكن أن نطلب من المتضررين من نظام استبدادي يقوم على بنى طائفية وجهوية أن يعبّروا عن مشاعرهم عفواً بلغة غير طائفية”، فقد أدى التركيز السلطوي على إظهار الصراع في شكله الطائفي (وفيكتوريوس يستشهد في رده بفقرة من كتاب محمد أبي سمرة “موت الأبد السوري.. شهادات جيل الصمت والثورة”، يوضح أحد أشكال هذه الممارسات) إلى ردود فعل طائفية، او اوجد أشكالاً من الاحتقان الطائفي لدى بعض القطاعات المجتمعية، لكن التعبير بلغة غير طائفية هو “وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلم باسمها” (ص 609). مع ملاحظة أن الشباب الذي حمل الثورة منذ البدء كان يتحسس سياسة السلطة التي تريد جرفه إلى صراع طائفي فرفضها (شعارات مثل لا سلفية ولا إخوان، أو الشعب السوري واحد). وظلت هذه الحساسية قائمة إلى الآن.
ما نقدته، واستثار فيكتوريوس، هو النخب التي باتت تبرر طائفيتها بالتركيز على وصم السلطة بالطائفية، والتي باتت تمدها إلى كل الطائفة (كما فعل الإخوان المسلمون منذ البدء، وأيضاً آخرون معهم). وبالتالي تناولت “منطلقات التحليل” التي اعتبر فيكتوريوس أنها خاطئة لدي.
نقد النقد
بغض النظر عن تأويلات حَكَمت فيكتور، من مثل أنني أدمج بين الطائفة العلوية والنظام، او قوله أنني أتجاهل بأن النظام استخدم الطائفية، وأنني ألقي اللوم على القوى والدول ووسائل الإعلام، أو جزمه بأن “شرائح كبيرة ممن قامت على النظام بثورة بهذا الحجم لديها تشخيصها الذي يؤكد أن النظام طائفي”، وغيرها من الاستنتاجات التي توضح أن خلطاً في المفاهيم يسكن كل الحوار، سوف أتناول ما يعتقد أنه في خلفية “نفي طائفية النظام”، حيث يعزوها إلى “إما أن منطلقات التحليل خاطئة، أو أن هنالك تخوّف من أن يؤدي تأكيد طائفية النظام لتعميق الشرخ الاجتماعي”.
طبعاً كان واضحاً في كل النقاش الذي يجري حول “طائفية النظام” أن الرد هو التأكيد على “سنية الثورة”، والميل للتبرير ولدعم القوى الأشد طائفية التي تُحسب على الثورة، وتصعيد الخطاب ضد العلويين ككل، وليس ضد النظام فقط. وبالتالي تحويل الصراع إلى صراع سنة ضد علويين. فكل الهدف من هذا النقاش هو “المساواة بين النظام والعلويين”. فالقول أن النظام طائفي يعني في سياق هذا النقاش أن النظام يعبّر عن الطائفة، وأن كل الطائفة هي مثل النظام، وبالتالي فالنظام يخوض صراعاً طائفياً ضد “الأكثرية” (التي هي هنا السنّة بالتحديد). وهذا مجافٍ للواقع لأن النظام يستخدم النصرة وداعش، واستخدم كفتارو والبوطي والقبيسيات، ولعب على الطوائف والقبائل والمناطق، والإثنيات. إلا إذا كان فيكتوريوس يقصد بأن النظام طائفي أن الماسكين بالسلطة ينتمون للطائفة العلوية! وفي هذا تحديد “هزلي”، لأن الأمر يتجاوز ذلك إلى المصالح والسياسات. الطائفي لا يدعم قوة طائفية مضادة، بل يعتبر أن معركته معها، وكل القوى التي أتت لدعم السلطة من لبنان والعراق وإيران تعتقد أنها تخوض صراعاً ضد “الأصولية السنية”، وترتبك حين تجد أن عناصر السلطة لا تتمسك بالدين. وهذا هو الفارق بين بنى السلطة والبنى الطائفية التي تدافع عنها.
هنا يطرح السؤال حول “منطلقات التحليل”، هل ينطلق الماركسي من الفهم المادي أو يركز على الشكل؟ بالتالي هل أن المصالح المباشرة هي التي تحكم منطق السلطة أو هو الانتماء لطائفة؟
طبعاً فيكتور يشير في أكثر من مكان إلى أن السلطة لجأت “إلى الأيديولوجية البرجوازية البديلة التي تؤمن لها الاستمرار”، بالتالي السلطة تستخدم الأيديولوجية الطائفية لخدمة مصالحها، وهذا لا يقود إلى أن توسم بأنها طائفية، لأن هذه الأيديولوجية ليست أيديولوجيتها بل تستخدمها من أجل تحشيد طائفة حولها دفاعاً عنها كسلطة. فالسلطة هدفت إلى الحفاظ على سيطرتها الطبقية باستغلال فئات مجتمعية عبر خطاب طائفي. كما عبر خطاب “طائفي مضاد”، وخطاب مناطقي أو قبلي، وأيضاً خطاب “قومي”، لكن كان واضحاً أنها تركز على تحويل الثورة إلى حراك سني أصولي. عبر الاتهام والتعميم الإعلامي، وعبر الفعل من خلال دعم تشكيل النصرة وداعش على الأقل.
السيطرة الطبقية كانت توجد انقساماً مجتمعياً يقوم على إفقار وتهميش الكتلة الأكبر من الشعب (وهنا للتوضيح فقط، هي من كل الطوائف، على العكس كان الساحل هو من أكثر مناطق سورية فقراً قبيل الثورة). ولا شك في أن هذا الانقسام الطبقي لم يكن ليوحد العلويين مع السلطة التي نهبت حتى الساحل واستغلته وأذلته (ظاهرة الشبيحة بدأت هناك، وممارسات آل الأسد السيئة أكبر من أن توصف). وكان واضحاً ذلك في مشاركة هؤلاء في المعارضة. رغم أن منهم بنت السلطة “القوة الصلبة” التي تعتمد عليها (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والمخابرات الجوية وأفرع من المخابرات العسكرية وغيرها). حالة التناقض هذه هي التي دفعت السلطة إلى الشغل على كيف تدفع العلويين لكي يلتصقوا بها؟ وكان هذا مفصل تكتيكها منذ بدء الثورة. ولم يكن غير خطاب التخويف وسيلة، بالضبط لأن العلويين غير ملتفين طائفياً خلف السلطة، وكان يمكن ان ينخرطوا في الثورة نتيجة فقرهم وهامشيتهم. وكان انخراطهم ضرورة لتحقيق انتصار سريع يقسم السلطة ويفتح على مرحلة انتقالية، ولقد كان هاجس السلطة يتحدد في منع ذلك عبر تخويف العلويين من الأصولية السنية، لهذا من يدرس خطابها في الأشهر الأولى يلحظ الرموز التي كانت تركز عليها (الإمارات السلفية، والعصابات الإخوانية، وتنظيم القاعدة، وتقطيع الأجساد). وحين شعرت بالفشل بعد عام من الثورة أطلقت “الجهاديين” (بين أول سنة 2012 ونيسان سنة 2012) لكي يؤسسوا جبهة النصرة (ثم داعش) وأحرار الشام، وجيش الإسلام.
هذا التكتيك ارتبط بدور سعودي خليجي يهدف إلى وقف المد الثوري، بدأ يدعم تعميم الخطاب الإسلامي بصفته خطاب الثورة، وبالنقل المشوه والمفبرك لشعارات و”مظاهرات”، ثم بدعم التسليح وفرض تسمية الكتائب بأسماء إسلامية من أجل التمويل، وبالتالي دعم “الجهاديين”. هنا كان التوافق كاملاً بين السلطة والسعودية والخليج (وبالموافقة الإمبريالية). حيث كان يجب أن تتحول الثورة إلى الأسلمة، وان يصبح الصراع صراعاً طائفياً.
الآن، ودون إطالة، كل ماركسي لا بد من أن ينطلق من تحليل السلطة من منظور طبقي، وبالتالي يشير إلى الآليات التي تستخدمها في الصراع، لكن عليه أن يواجه الوعي المشوه الذي يحكم الطبقات الشعبية (رغم أن الشعب كان أكثر وعياً من النخب لأشهر طويلة بعد الثورة، ولازال جزء مهم منه كذلك)، لا أن يبرر لها كل ميل طائفي مقابل. حتى وإنْ كان كل الشعب يرى في السلطة بأنها سلطة طائفية، ويعتقد بأن من المنطقي أن يكون الرد طائفياً، لا بد من مواجهة ذلك. فهذا وعي يشوّه الصراع، ويخدم منطق السلطة الذي يريد قسم الشعب إلى طوائف تتصارع، ويضمن تخويف العلويين لكي تستخدمهم وقود الدفاع عنها. السلطة تريد من العلويين، بصفتهم علويينن أن يقتنعوا بأنها سلطتهم ليبقوا وقود حربها.
لقد نجح الشرخ الذي أرادته السلطة (والقوى الإقليمية) لكن هذا لا يعني أن الطائفة هي مع السلطة “إلى النهاية”، على العكس فقد سيقت بالعنف إلى الحرب دفاعاً عن السلطة، وخسرت عشرات آلاف الشباب. ولم يكن التخويف وحده هو وسيلة السلطة، بل كان القتل هو مصير كل من يشك في رفضه الانجراف خلفها. ولهذا سيق شبابها إلى الموت وهي ترتعب من خطر قادم أو أَوهَمت السلطة (والقوى الإقليمية) أنه قادم. ومن ثم جرى اختراعه “على الأرض”. كل ذلك هو ما يجب أن يكشف، وأن يعاد بناء الثورة على اساس طابعها الطبقي السياسي بعيداً عن الأوهام الأصولية أو ردود الفعل الطائفية. فواقع “الطائفة” يجب أن يضعها في طليعة الثورة بدل أن تكون قوة وحشية السلطة. وإذا كانت مصالح السلطة تفرض أن تدفعها إلى هذا المصير، فإن مصلحة الثورة تفرض أن يجري العمل على إعادة موضعتها في الثورة. من هذا المنظور لا بد من كشف كل خطاب طائفي وتعرية كل قوة طائفية.

السابق
مقررات الحكومة: نمارس صلاحيتنا وكالة عن رئيس الجمهورية بكثير من العناية والتبصر
التالي
الانباء الكويتية: نواب 8 اذار سيعطلون الجلسة التي دعا إليها بري