القصيدة العينية للشيخ محمود عباس العاملي

ولد آية الله الشيخ محمود عباس العاملي في قرية عثرون قرب بنت جبيل في جنوب لبنان سنة 1867- وتوفي في سنة 1935.

من مؤلفاته: الذريعة إلى معرفة أصول الشريعة، بشارة الأنام بظهور المهدي عليه السلام، إرشاد الخلق إلى الحق، الدرر السنية في مدح سادات البرية، المعراج، الكوكب الوضاح، أساس التعليم، نجدة اليراع في اللغة، قصة النبي موسى(ع)، قصة النبي سليمان(ع)، قصة أصحاب الفيل، رسالة في الاختلاجات، البلاغ المبين، الفتاة السورية، القصيدة العينية، القصيدة اللامية، نفحات القبول في مدائح الرسول، الغديرية مع حديث الغدير، الكوثرية، رد المتسمين بأهل القرآن…

ترجم له الشيخ آغا بزرك الطهراني في نقباء البشر (في القسم غير المطبوع)، وقال: ” الشيخ الفاضل الكامل… نزيل بيروت وعالم الجعفرية فيها، له عدة كتب آخرها (الدرر البهية) المطبوع قبل وفاته بأيام…

وهو من مؤسسي الجمعية العاملية، التابعة حاليا لآل بيضون والذين أصبحوا مسؤولين عنها.

وكان لديه المكتبة العاملية في برج حمود… وفي كتابه “مع علماء النجف الأشرف يفرد الشيخ محمد جواد مغنية صفحات يتكلم فيها عن الشيخ محمود عباس العاملي:

الشيخ محمود عباس

مهما تعددت مقاييس الرجال، وتطورت مفاهيمها، فإن المقياس الذي يقاس به عالم الدين ثابت لا يتغيّر بتغيير الأحوال والملابسات، ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.. فهو من الحقائق الثابتة التي لا تقبل التقييد، ولا التقليم والتطعيم.. إنه “التقوى والتفقه في الدين”، ولا شيء وراء ذلك.

أما الفصاحة والبلاغة، أما الكتابة والخطابة، فهي من المحسنات الكمالية لعلماء الدين، ولا من الشروط الأساسية، فمن عرف واتقى فهو عالم حقًا، أما من اتقى وجهل الأحكام، أو وعاها وخرج على مبدأ التقوى والصلاح، فلا تجوز الثقة به، كعالمٍ ديني، وإن كان كاتبًا مبدعًا، وخطيبًا مصقعًا.

والتفقه في الدين أشرف العلوم إطلاقًا، أما التقوى فهي منبع الفضائل بكاملها، ومصدرها الأول بدون استثناء.. ومن هنا كان رجل الدين محل التقديس والتكريم أكثر من أي عالمٍ في العلوم الدنيوية.. وإذا كان الثقة مع التقوى مقياس الأفضلية والتقديم، فهل يقدم الأفقه والأعلم على العالم الأتقى والأورع، أو يقدم هذا على ذاك؟. فيه قولان، ونحن دائمًا مع الذين يقدمون الأتقى .. وعلى هذا الأساس يبتني حديثنا وتقديسنا للمرحوم الشيخ محمود عباس.

كان هذا الشيخ عالمًا في العلوم العربية، وعارفًا بالأحكام الشرعية[…]، وكان يقرض الشعر، وينظم القصائد الطوال، وأكثرها في الزهد والتصوف، ومدح أهل البيت(ع). أما في التقوى والإخلاص، والنصح لله وعباده، والتواضع، ونشر الأحكام، وتربية النشء على الدين، والخلق الكريم، فقد كان النموذج الصالح، والمثل الكامل.

ولد هذا الشيخ الصالح سنة 1867، في قرية من قرى جبل عامل، تدعى “عثرون” قريبة من بنت جبيل، وقد عُرف أهل هذه القرية بالذكاء وصفاء الفطرة، وتوفي سنة 1935 في برج البراجنة، وعاش حياته كلها فقيرًا متقشفًا، لم يذق حلاوة الدنيا ونعيمها، ولم يملك منها كثيرًا ولا قليلاً سوى مكتبةٍ[…]، وهي كل ما ترك من ميراث.

وكان يسكن بالإجار في غرفةٍ واحدةٍ هو وزوجته وأولاده، كأي عامل هاجر إلى بيروت طلبًا للرغيف، وقد تسنى له، لو أراد، أن يبني أكثرَ من دار، ويملك أكثرَ من عقار، ولكنه طلب ما هو أعلى وأرضى لله سبحانه، فأخذ يطوف في البيوت والحوانيت والقرى، لا يكدي ويستجدي، ولكن ليعلم ويبشر بالحقائق الدينية.. فلم ينتظر الناس أن يقصدوه، ويسألوه، فكان يذهب بنفسه يطرق الأبواب ويدخل البيوت، ويعلم النساء والرجال، وكثيرًا ما كان يذهب إلى بعض التجار والكسبة في حوانيتهم يلقي عليهم دروسًا في أصول الدين وفروعه.

أخبرني الحاج أحمد بعلبكي، وهو الثقة، قال:

كان الشيخ محمود عباس يقصدني إلى عملي في التجارة، ويعطيني دروسًا في الرسالة العملية، وقال: ما عرفنا أثره البالغ في التعليم ونشر الدين، إلا بعد موته، حيث تبين أن فوائده الدينية، وصِلاتِهِ الإرشادية امتدت إلى أوساط ما كنا نظن أن أحدًا من رجال الدين يصل إليها، وما كانت تقف في طريقه العقبات والاعتبارات؛ لأنه كان جدّ حريص على أن ينتشر الدين في كل مكان.

وكان إذا جاء فصل الصيف، وأقفلت المدارس أبوابها يجمع التلاميذ، ويذهب بهم إلى الرمل والبحر، أو أي مكان بعيد عن الضوضاء، ويلقي عليهم دروسًا في الدين ومبادئ اللغة، وكان تلاميذه يحبونه ويحترمونه أكثر من آبائهم، وينتظرون وقت الدرس بفارغ الصبر، هذا، ولم ينس أن يزور بين الحين والحين بعض القرى في الجنوب، وكسروان، وبعلبك يفقه أهلها بالدين، ويرشدهم إلى الحق، ويحذرهم من الحرام والآثام، لا يسألهم جزاءً ولا شكورًا، وقد اهتدى عن طريقه خلق كثير.

وصادف، وهو في بعض القرى أن جاءه فلاح بثور، فقال له: ما هذا؟. قال هو حق لله أتيتك به.. وأخذه الشيخ، وذهب قاصدًا قريةً مجاورةً، وفي الطريق رأى رجلاً يحرث على بقرة وحمار، فسأله عن السبب؛ لأن المألوف في الحرث أن يكون على البقر، فقال: لا أملك غيرهما، فأعطاه الثور ومضى في سبيله.

وأخبرني الشيخ خليل هاشم المعروف بالصدق والأمانة، قال: في سنة 1341هـ، [1920م]، حججت أنا والشيخ محمود عباس، فأعطته امرأة خمس ليرات ذهبًا ونحن في مكة فأعطاها لسيد عراقي، أما قصة ولده البكر، فيعرفها ويتحدث عنها المئات، وملخصها أن سائقًا مسيحيًّا من “حارة حريك” دهس بسيارته ولده الأكبر حطأً، فمات لساعته، وقبضت الحكومة على السائق وأودعته في السجن، ولما علم الشيخ الوالد قال: مسكين هذا السائق.. إنه لم يتعمد الإساءة إلينا، فكيف يُساء إليه، وأسقط حقه عنه.. وقدم السائق للشيخ مبلغًا من المال، فرفض، وقال: لا آكل لحم ولدي.

هذا، وهو يعيش ليومه، ومن يده لفمه، وقد يستدين ثمن وجبة الطعام له ولأهله، وحدثني أكثر من واحد أنه ربما حصل على مصروف يومه بكل جهد، فإذا رأى محتاجًا آثره، وأعطاه ما كان قد تيسر له، وبقي على باب الله الكريم واثقًا بأفضاله وإحسانه، وحدثت له أشياء مماثلة لا يتسع لها هذا المقال.

بهذا الإخلاص، وهذه الأخلاق الإسلامية النبيلة في العالم والقائد رجع الناس إلى الدين والفضائل، وانتهوا عن الجرائم والرذائل، وقد كانت الهداية الإلهية وما زالت تعمل عملها في الناس عن طريق المتقين والمخلصين.

مضى على وفاة هذا الشيخ الجليل المصلح 27 عامًا، [77 عامًا حتى يومنا هذا] ولم يذكره أحد في كتاب أو صحيفة، وتحدث عنه عارفوه لبعض المناسبات، وحين يقارنون بين من مضى ومن بقي من رجال الدين، وبعد قليل ينطوي اسمه مع الأيام، وتمحى صورته من الأذهان.. وكم أنجبت جبل عامل من أمثاله، ثم انطووا في علم النسيان، مع أن آثارهم في نفوس أبناء هذا الجبل ما زالت تنمو، وتعطي أطيب الثمار، لقد أهمل التاريخ ذكرهم لا لشيء إلا لأنهم كانوا يعملون بصمت مخلصين لله وحده لا يبتغون شهرة ولا ثناء.

السابق
النساء يبطحن الرجال إلكترونيّاً
التالي
أخطر من الفراغ الرئاسي