ردّاً على سلامة كيلة: النظام عرّاب الطائفية وصانعها

تنفي بعض النُخب المحسوبة على الثورة السورية، والتي كانت فاعلة فيها، تهمة الطائفية عن النظام، بحيث تخلص في تحليلها لبنيته، إلى أنه ليس أكثر من نظام “مافيوي متوحّش”. أغلب هذه النُخب يسارية. أمّا تحليلها لبنية النظام الذي تنفي فيه تهمة الطائفية عنه فهي تندرج تحت باب من اثنين، إمّا أن منطلقات التحليل خاطئة، أو أن هنالك تخوّف من أن يؤدّي تأكيد طائفية النظام لتعميق الشرخ الإجتماعي (يُستبعد استبعاد قطعي في النص الذي ننقد أن تكون عملية نفي طائفية النظام من باب تبييض صورته). وبالحالتين فإن وعي بعض شرائح المجتمع يتبلور متأثّراً بهذه المفاهيم من جهة. ومن جهة ثانية، لابد وأن شرائح كبيرة ممّن قامت على النظام بثورة بهذا الحجم، لديها تشخيصها الذي يؤكّد أن النظام طائفي.

في مقال بعنوان “عن الطائفية في سورية” نُشر على موقع “العربي الجديد” في 8/أيار/2014، يحمل من التناقض أكثر بكثير ممّا يحمل من الإنسجام، يُعرّف سلامة كيلة الطائفية بأنّها: “التمسّك بأيديولوجيا، هي موروث الطائفة، وتحويلها إلى مشروع سياسي”. وفي تدليله على ذلك يعتبر أن إغلاق السلطة “لجمعية المرتضى” التي كان قد أنشأها جميل الأسد، دليل، ينفي عن السلطة تهمة الطائفية. وفي مطلع مقاله، يدمج كيلة بشكل ملفت، ما بين “الطائفة العلوية” والنظام، في محاولة لكشف طائفية من يتّهم النظام بالطائفية إذ يقول: “أصبح كل النقاش يدور حول الطائفية، فهناك من يتّهم النظام بها، وبالتالي يتّهم الطائفة”. والجملة بحاجة لفكفكة رموزها لتبيّن ما تخفي. وما تخفيه، ليس بالضرورة أن يكون عكس ما تظهر، بل قد يكون ارباك بالفكر هوى به لتحويله إلى طلاسم. ببساطة تظهر الجملة المعنى التالي: من يصف النظام بالطائفي، يستهدف الطائفة العلوية. والسؤال هنا: هل قامت الثورة ضد الطائفة العلوية، أم ضد تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية على النظام كبنية لجأت في لحظة توحّشها القصوى لإحتياطها الإجتماعي الذي يتمثّل في طائفة بعينها؟.
بعد هذه المقدّمة، يتخبّط الفكر أكثر، يقول كيلة: “الصراع في سورية ليس بين أغلبية (تصنّف أنها سنية) وأقلّية (هي علوية)، لم يكن كذلك منذ البداية، ولم يصبح كذلك. وبالتالي مهما فعلت السلطة، ومهما كانت ردّة فعل العلويين، يجب الإنطلاق، في كل تحليل وموقف، من أن الصراع هو صراع الشعب (بكل تكوينه) ضد السلطة الناهبة والمستبدّة”.

قد يكون صحيحاً أن الصراع في البداية لم يكن “بين أغلبية (تصنّف أنها سنية) وأقلية (هي علوية)”. لكن، أن يغض الشعب السوري النظر عن “ردّة فعل العلويين”، فينطلق “في كل تحليل وموقف، من أن الصراع هو صراع الشعب (بكل تكوينه) ضد السلطة الناهبة والمستبدة”، فهذه مسألة بحاجة لمراجعة جدّية، خاصة بعد المآلات الأخيرة للصراع والذي اتّضحت فيه بشكل لا يقبل الجدل الممارسات الطائفية البشعة للنظام، والتي عبّرت عن نفسها خير تعبير بعمليات الترانسفير في بعض المدن والمناطق، والتي استعان فيها بميليشيات طائفية تُشبهه من كل دول الجوار، أعلن بعضها صراحة أنّه يتدخّل لحماية “مناطق شيعية حدودية”، و “مزارات” و “مقدّسات” دينية. ثم كيف يفسّر الكاتب جملة “ردّة فعل العلويين”؟ هل استُخدمت الجملة سهواً، أم أنّه مصطلح شائع الإستخدام هذه الأيام منذ أن تحول الصراع إلى صراع طائفي، يثبته الكاتب فيما هو يحاول إنكاره؟. “ردّة فعل” على ماذا بالضبط؟، على كلام بعض “المعارضين” الطائفيين؟. وإذا كان هكذا، هل تستدعي “ردّة فعل العلويين” تدمير البلاد وتهجير أهلها واستجلاب الخارج الطائفي الشبيه؟. وهل هي “ردّة فعل”، أم فعل يستدعي ردود أفعال؟. ألا يبرّر هذا التحليل (للأغلبية) الإستنجاد بالشياطين لمواجهة “ردّة فعل العلويين” التي شرّدتهم ودمّرت بلادهم؟. إلا أن النص يبقى عاجزاً عن الإفصاح عن مقاصد كاتبه!
في كتابه البحثي الضخم “سورية: درب الآلام نحو الحرية .. محاولة في التاريخ الراهن”، والذي يقع في (687) صفحة، صادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، وهو كتاب يؤرّخ لأول سنتين من عمر الثورة (2011-2013)، يقول عزمي بشارة في الصفحة (306) في تفسيره لتماهي الطائفة العلوية والسلطة في النظام: “في محاولته حكم أغلبية السكان كان على بشار الأسد أن يهمّش الحدود الفارقة بين الأقلية والأكثرية، بحيث لا تظهر الأقلية باعتبارها جماعة طائفية، وبالتالي أقلية. فقضي على مصادر عيشها الأصلية بتحويل اعتماد أفرادها على الجيش والأمن ووظائف الدولة الأخرى. وتطورت عملية طحن الطائفة العلوية باعتبارها كياناً خارج الدولة وتحوّلت إلى الإعتماد الكامل على النظام والتماهي معه كأنه نظامها”.

هذا يعني أن النظام، وبشكل مدروس، ضرب مصادر عيش هذه الطائفة لتحويلها إلى احتياط سلطة يستخدمه لحظة يُحشر، كما هو حاصل بعد اندلاع الثورة بشكل واضح. وهذا ما يعترف به كيلة في مكان آخر من مقالته عندما يتسائل: “لماذا ظل العلوين متحلّقين حول السلطة؟”، فيجيب: “هذا أمر يجب أن يُبحث فيه في كل ردود الأفعال التي نشأت منذ بدء الثورة من قوى ودول، ووسائل إعلام، كانت تنطلق من منظور طائفي، وتريد أسلمة الثورة، وتبرز شخصيات معادية للأقليات، وتفتي في قتلها، وهذا ما كانت تلعب عليه السلطة منذ البداية، من أجل تخويف الأقليات (خصوصاً العلويين) من الثورة، ودفعها دفعاً لكي تلتصق بالسلطة”. هكذا، تم الإعتراف بأن هناك انقسام طائفي، أسبابه: “بعض القوى والدول ووسائل الإعلام”، وهذا ما استغلّه النظام، ودفع بالطائفة العلوية “لكي تلتصق بالسلطة” وتصبح الجزء الأساسي في تكوينه الأمني القمعي الإجرامي. لكن الغريب، أن كيلة الذي اعتبر كل هؤلاء طائفيين، مازال ينفي عن النظام هذه الصفة. ألا يذكّرنا هذا باستحضار النظام في بداية الثورة لنظريات غريبة عجيبة “كالمؤامرة الكونية” وغيرها من الحجج الكاذبة التي لم يصدّقها أحد غيره، لتبرير عمليات القتل الوحشي للشعبين السوري والفلسطيني؟، وكأن تفسير كيلة يريد قول التالي: العلويون الذين التحقوا بالسلطة متأثّرين بالتحريض الطائفي لـ”بعض القوى والدول ووسائل الإعلام”، غير مسؤولين عن وعيهم، وانجرافهم مع السلطة، وردود أفعالهم؛ الطرف الآخر هو المسؤول، الدول والقوى ووسائل الإعلام هي المسؤولة، والعلويون براءٌ ممّا انجرفوا إليه. فخوفهم يبرّر لهم طائفيتهم ودمويتهم الغير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي فاقت فظائع الصراع بين “الهوتو والتوتسي” في رواندا 1994!

في كتاب “موت الأبد السوري .. شهادات جيل الصمت والثورة” لمحمد أبي سمرة، الصادر عن دار رياض الريس 2012، والذي يقع في (382) صفحة، وتحت عنوان “رحلة التنكيل في القرى العلوية”، تقول إحدى شخصيات الكتاب الأساسية في توصيفها بداية القمع الوحشي في مدينة بانياس الساحلية المختلطة طائفياً في الصفحة 365: “الملعب الرياضي البلدي في بانياس، سمّاه الأهالي المسلخ بعدما حوّله الجنود و رجال الأمن والشبيحة مركزاً لتجميع زهاء 4 آلاف معتقل من سكّان المدينة البالغ عددهم الإجمالي 50 ألف نسمة. كان المعتقلون في أثناء عملية الدهم، قد جُمعوا أولاً في مواقع ثلاثة أو أربعة، قرب المحطّة الحرارية، وفي جامع أبو بكر الصديق، وفي منطقة رأس النبع التي اقتادني إليها مع والدي خمسة من رجال الأمن اقتحموا منزلنا واعتقلونا، ثم عصبوا عيوننا وأوثقوا أيدينا خلف ظهرينا وانهالوا علينا بضرباتهم وشتائمهم طوال مسافة كيلو متر. وعلى هذه الحال نقلونا مع جمع من الأهالي إلى ساحة قرب المجطّة الحرارية، ومنها إلى الملعب البلدي – المسلخ البشري. وبعد ظهر الأحد 8 أيار (2011 أي بعد انطلاق الثورة بأقل من ثلاثة أشهر)، استقدم رجال الأمن عدداً كبيراً من الباصات لأخذنا في رحلة الإهانات والتنكيل في القرى العلوية القريبة. قبل أن يدفعني ضابط أمن برجله لأصعد إلى أحد الباصات، قصّ شعري بآلة حلاقة كان يحملها، لكنني تمنّعت من الصعود إلى الباص الذي سبقني والدي في الصعود إليه، كي لا أراه يُضرب ويُهان في حضوري. بركلة قوية من رجله رماني الضابط أرضاً، ثم اعتلى ظهري متقافزاً عليه شاتماً أبي وأمّي وأخواتي وديني، وفي هذه اللحظات انطلق الباص مع زهاء 35 رجلاً، فحمدت الله على نجاتي من أن أكون مع والدي في هذه الرحلة.

عرّج الباص الآخر الذي أصعدني ضابط الأمن إليه، على حي القوز الذي تعرّضنا فيه لنوبة أولى من الشتائم والبصاق والصفعات واللكمات التي سدّدها جمع من سكّانه العلويين إلى وجوهنا، صارخين: بدكن حرية يا عرصات يا منايك … خذوا حرية، خذوا. رجل مُسن على المقعد قربي، أخذ يبكي في صمت، ورأيت دموعه تختلط بالبصاق على وجهه، فأرجعت ظهري قليلاً إلى الخلف، وبكل ما أوتيت من قوة غضبي ومهانتي ومهانة الرجل المُسن، سدّدت بقدمَيَّ الإثنتين رفسة إلى بطن الشاب الذي يشتمنا ويضربنا ويبصق على وجوهنا، فوقع الشاب في أرض الباص بين صفّي المقاعد، صارخاً. وفي هذه اللحظة لم أعد أميّز على أيّ مواضع من جسمي انهالت عليّ الضربات، قبل أن يحملني عدد من رجال الأمن المسلّحين من يديَّ ورجليَّ، ويرمونني من نافذة الباص إلى الخارج، حيث ارتطمت بالأرض، وسمعت صوت الشاب الذي رفسته يصرخ بأن يتركوني ليتدبّر أمري، فقال له أحد رجال الأمن أن يفعل بي ما يشاء ويُعيدني إلى الملعب البلدي. حين انطلق الباص وانهال عليّ الشاب يضربني بعصا خشبية، حمدت الله مجدّداً، لأنه ألهمني أن أفعل ما فعلت، ممّا قصر رحلتي في القرى العلوية التي أخبرني من عادوا منها قبيل غروب يوم الأحد ذاك بأن عدد محطّاتها تجاوز الخمس، لتأجيج الأحقاد الطائفية وتعميقها ما بين السنّة والعلويين”.

لن نعتذر من القارئ عن الإطالة في استحضار النص المقتبس، لأن أي اختصار كان سيشوه الصورة. والنص، على خلاف ما قال كيلة في مقاله من أن قوى ودول ووسائل إعلام هي من عمل على تأجيج الطائفية، يُظهر أن النظام كان حريصاً منذ الأسابيع الأولى للحراك على تأجيج النزعات الطائفية بأقبح الطرق وأبشعها وأفظعها. والمقطع الذي اجتزأناه، يُظهر ما هو أخطر من استراتيجية النظام، بمعنى: يُظهر الجهوزية في حاضنته الطائفية للتجاوب السريع، وهذا ما يريدنا كيلة أن نتفهّمه على أساس أنّه “ردود أفعال”. في هذه الأسابيع التي يتحدّث عنها النص، لم يكُن الإعلام بعد قد اتّخذ قراره بالإضاءة على المشهد الدموي السوري، ولعلّ كيلة يذكر ذلك عندما كان الخبر السوري حتّى هذه الفترة (أيار 2011) وما بعدها بقليل، خبراً ثالثاً أو رابعاً على شاشة “الجزيرة” و “العربية” وغيرهما، لا تتجاوز تغطيته الدقيقة في أحيان كثيرة، وبشكل مقتضب خجول، وهذا ما يؤكّده عزمي بشارة بالأدلة والأرقام والتواريخ والشهادات في كتابه المذكور أعلاه في باب “أثر الإعلام الفضائي في الثورة”، الصفحة (430- 443)، يستطيع القارئ الرجوع إليه متى شاء التأكّد.

وفي العودة لتعريف كيلة للطائفية: “التمسّك بأيديولوجيا، هي موروث الطائفة، وتحويلها إلى مشروع سياسي”. يُستغرب التعريف، مقارنة بالإستنتاج السابق. إذ التصقت الطائفة بالسلطة فعلاً كما أورد واعترف. ثم وبالإستناد إلى هذا التعريف، كيف نميّز بين دولة ثيوقراطية كالسعودية أو إيران أو حتى “اسرائيل”، تُحكم من قبل أكثريات دينية مُعيّنة، وبين دول أخرى تتحكّم فيها أقلّية بكل موارد البلاد، أو بين هذين النمطين، ونمط آخر هو نمط “أقليات متشاركة” تُهيمن في واحدة على الأخريات على غرار النموذج اللبناني مثلاً؟ يقول المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في كتابه “في الدولة الطائفية” الصادر منذ قرابة ثلاثة عقود: “ليست الطوائف طوائف إلى بالدولة. والدولة هي التي تؤمّن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي، بالدولة وحدها، مؤسّسات. (ص29). هذا يعني أن الطائفية، لا يُمكن أن توجدها “المعارضة”، لأنّها لا توجد إلا بالدولة. بمعنى: لا تتمأسس الطائفة خارج إطار الدولة. فبالدولة وحدها، تصبح الطائفة بما هي علاقة سياسية، الوحدة الإجتماعية الأولى التي تعترف من خلالها الدولة بالفرد، أو “المواطن”. أي أن الطائفة، معبر الفرد إلى الدولة.
أمّا في تعريف الطائفية فيقول: “هي الشكل التاريخي المحدّد الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية”. (ص323)، ويتكرّر هذا التعريف على امتداد صفحات الكتاب الـ (357).

ما يقوله مهدي عامل يؤكّد أن الطائفة احتياط سلطة، في شروط معيّنة –كما الحالة السورية راهناً مثلاً- يحرص عليها النظام بالقدر الذي تؤمّن له استمراره، وقدرته على إعادة إنتاج نفسه. واحتياط سلطة في الحالة السورية، تعني أنّ النظام وبعد خسائره الواضحة لرصيده الحزبي عندما انهارت كل قواعد “حزب البعث العربي الإشتراكي” في الأيام الأولى للثورة، وهي (أي قواعده) ما كان يؤمّن له الحامل الإجتماعي الذي يسمح له بإعادة إنتاج نفسه بشكل متكرّر على مدى العقود المنصرمة، وسقوط كل شعاراته “القومية”. هذا ما دفع النظام للجوء إلى الأيديولوجيا البرجوازية البديلة التي تؤمّن له الإستمرار، وهي في أنظمتنا متعدّدة، متنوعة: القومية، الطائفية، القبلية، الإثنية، الجهوية ..إلخ
أمّا الطائفة، فهي بتعريف مهدي عامل (وهي غائبة عند كيلة): “علاقة سياسية محدّدة، يُفسّر وجودها شكل من الصراع الطبقي، ويُفسّر إلغاءها شكل آخر من الصراع الطبقي”. (نفس المصدر ص327)، ويتكرّر ذات التعريف على امتداد صفحات الكتاب أيضا، بل وفي الكتب الأخرى لنفس المفكّر.
وهذا يعني أن وصف النظام بأنّه “سلطة مافيا وحشية” على صحته، لا ينفي عنه صفة الطائفية، فمن الجائز أن تكون هناك أنظمة “مافيوية وحشية” كثيرة في محيطنا العربي وغير العربي، دون أن تكون طائفية.
الأخطر من ذلك، أن النظام دخل بتحالفات إقليمية، القاسم المشترك الوحيد فيها، هو اللون الطائفي الواحد. عدا عن تاريخه الحافل بالخبرات في لبنان، كنظام طائفي له تجربته الخاصة، عندما كان يعمل على صياغة التحالفات الطائفية فيه بما يؤمّن له استمراره، وتكامله مع الجار القريب سورية.
في خلاصة كتابه، يصل عزمي بشار إلى أن: “الطائفية في سوريا ليست افتراء بل هي قائمة في نظام الحكم. ولا يمكن أن نطلب من المتضرّرين من نظام استبدادي يقوم على بُنى طائفية وجهوية أن يُعبّروا عن مشاعرهم عفواً بلغة غير طائفية. فهذه وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلّم باسمها”. (ص 609).
إلا أن كيلة، وخلافاً لخلاصات بشارة، يطلق حكمه القطعي على كل من يحاول مقاربة المسألة الطائفية لمحاولة فهمها، وصياغة نظرية تواجهها: “الذين يركّزون على طائفية السلطة، فهم يحتاجون لمبرّر لطائفيتهم، وبهذا يؤدّون الدور الذي تريده السلطة، بإخافة العلويين تحديداً”.

هذا يعني أن كيلة وصل لخلاصة مفادها: النظام غير طائفي، وأي حديث آخر يخدمه. عدا عن أن من يقتنع من الشعب برواية “المعارضة الطائفية” طائفي بالضرورة. من جهة أخرى، أي محاولة لوصف النظام بالطائفية تستهدف تخويف العلويين. هكذا، ببساطة! مع إن الجملة التي يختم بها كيلة مقاله “إخافة العلويين” بحاجة فعلية للتساؤل عن جديتها، بعد تدمير سورية بالشكل الذي أصبحت عليه اليوم. ويجوز التساؤل هنا: ماذا لو أن أحداً ما، من أقليّة أخرى (بل حتى من الطائفة العلوية نفسها)، “أخطأ” في تشخيص النظام وتحليل بنيته، ووصل لخلاصات واستنتاجات تفيد بأن النظام طائفي؟.
الطائفية، أصبحت بسبب ممارسات النظام “المافيوية المتوحّشة”، المنعقدة، والمتمركزة على طائفية أكثر توحّشاً، أصبحت حقيقة موجودة، يُلمس أثرها بعمليات القتل والتهجير والإعتقال الظاهرة للعيان. وبغض النظر عمّا إذا كان البعض سيستغلّها، لا بل بسببٍ من محاولات البعض استغلالها في محاولاتهم للوصول إلى السلطة بأي ثمن؛ يجب الإعتراف بوجودها، كخطوة أولى لفمها، وبالتالي العمل على نقضها وإنهائها بآليات ومفاهيم علمية متميّزة، لا بإدارة الظهر لها، وعدم الإعتراف بوجودها، واتّهام من يحاول فهمها بتأجيجها. لأن هذا بالضبط، ما سيساعد الطامحين للوصول إلى السلطة من بوابتها، بالوصول فعلاً، وتهميش “اليسار” المهمّش أصلاً، والذي بِقدر حضوره، والدور الذي يلعبه بما هو فصيل وطني نزيه، يُعدّ وجوده ضمانة لضرب مخططات التجزئة والتقسيم؛ يحد من أدوار القوى الطائفية التي لا تستطيع التقدّم إلا بغياب البدائل الديموقراطية الحقيقية.

السابق
‘الكتائب’ يدعو لتأمين النصاب: حالة المجلس ‘اللاتشريعية’ ترتب انتخاب رئيس
التالي
فتفت رداً على نصر الله: الكلام عن التمديد لا أساس له من الصحة