الوحي والعقل: الفارق بين الدين.. وبين المعرفة الدينية

المعرفة الدينية
لا شك أنّ المعرفة الدينية (ومعها بل ضمنها الخبرة الدينية) وإن تكن مستندة ومستمدة - في عناصرها الأساسية - من الوحي، ومن الإيمان بالوحي، إلا أنها ليست الوحي نفسه.. إنها ببساطة: القراءة البشرية للوحي.

لا شك أنّ المعرفة الدينية (ومعها بل ضمنها الخبرة الدينية) وإن تكن مستندة ومستمدة – في عناصرها الأساسية – من الوحي، ومن الإيمان بالوحي، إلا أنها ليست الوحي نفسه.. إنها ببساطة: القراءة البشرية للوحي. وبهذا التعريف للمعرفة الدينية يصبح واضحاً الفرق بين الدين وبين الثقافة الدينية، وبين الوحي وبين معرفة الوحي..

فإذا كان الدين – الوحي.. مصدره الله سبحانه وتعالى، فإنّ المعرفة أو الثقافة الدينية مصدرها البشر.. ونحن لا نورد هذا التمييز بين الدين، والثقافة الدينية لننفي صفة التقديس عن الثقافة الدينية، ونثبتها للوحي وحده – فهذا أمر بات مفروغاً منه، ولا يجوز التورط – من جديد – باسباغ المقدس على ما هو بشري.. لأن كل ما هو بشري هو نسبي، أي ناقص ومتحوّل. لكنّنا نورد هذا التمييز بينهما تمهيداً لبحث العلاقة بين الدين والثقافة.
ما العلاقة بينهما؟!

يخيّل إليّ أنّ الدين هو جواب إلهي على سؤال ثقافي بشري.. سؤال لم يكن بوسع المعرفة البشرية الجواب عليه، وما تزال المعرفة البشرية عاجزة، وستبقى كذلك فما هو هذا السؤال؟ ولماذا أسميناه سؤالاً ثقافياً؟ ثم لماذا كان سؤال معجزة لا يستطيع الكائن الإنساني أن يقدم الإجابة الحاسمة عليه؟
وما هو السؤال؟ إنه سؤال الوجود.. ما هو هذا الوجود؟ ما مصدره؟ هل لهذا الوجود بداية؟ وهل له نهاية؟ وأين يكمن المعنى الأسمى لهذا الوجود؟ وما هو موقع الكائن الإنساني فيه؟ وما هو مصيره؟

كل الإجابات البشرية عن الطبيعة، والمادة وعن جميع مظاهر الوجود، والتي دخلت في نطاق العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية لم تجب، ولم تقترب من الجواب على سؤال الوجود، وسيبقى هذا السؤال لغزاً بمعزل عن معطيات الدين.
لكن هذا السؤال يبقى في طبيعته ثقافياً.. بل سؤالاً ثقافياً بامتياز، لأنّه سؤال الحيرة، والبحث عن المعرفة.. ثم إنّ الدليل الأسطع على اعتباره سؤالاً ثقافياً بامتياز يظهر بوضوح في انهماك الآداب والفنون والفلسفات منذ فجر التاريخ بتحديات هذا السؤال وتداعياته.. حتى يمكن القول إنّ: ما من إبداع في مستوى الفلسفة والأدب والفنّ يمكن اعتباره إبداعاً نوعياً ما لم يتضمن تلك الحيرة التي يتفتَّح عنها سؤال الوجود الخالد.

أما كونه سؤالاً معجزاً لا تقع الإجابة عليه في دائرة الطاقة البشرية.. فذلك لأنّ كلّ إجابة للعقل البشري في هذا المضمار تعيد إنتاج السؤال من جديد، وتؤكده حتى لتبدو الإجابات البشرية بمثابة غابة جديدة من الأسئلة المتفرعة عن سؤال الوجود الأول نفسه..!

الدين إذاً، بوصفه الإجابة الوحيدة الممكنة على سؤال الوجود، والبداية والمصير، لا يمكن أن يكون مصدره بشرياً. بل لا بد من كينونة أعلى من الكائن الإنساني تكون هي المصدر الذي تصدر منه الإجابة وهي الله تعالى. ووفق المؤمنين، فإنّ الإنسان تلقى الإجابة على هذا السؤال عن طريق الوحي من الله تعالى بواسطة الأنبياء.

إن علماء الكلام يقولون إنّ الكائن الإنساني تعرّف إلى وجود الله عن طريق العقل، وأنّ العقل البشري محكوم بفكرة وجود المبدأ الأول.. وكثير من الفلاسفة يرون ذلك.. وأنّ العقل يستقل بمعرفة وجود الله بدون أي إضافة معرفية من خارجه (أي من خارج العقل)، وما عدا ذلك من معارف غيبية كالبعث، والثواب والعقاب فإن مصدرها الوحي.

وهكذا بات الوحي مصدراً للمعرفة عند البشر معرفة مختلفة بطبيعتها عن المعارف التي تأتي ثمرة مباشرة لحركة العقل.. والعلاقة بينهما (أي بين معطيات المعارف العقلية، وبين معطيات المعرفة عن طريق الوحي) ليست علاقة تناقض وتضاد. فالعقل البشري – في أي حال من الأحوال – إن لم يستطع أن يثبت معطيات الوحي، فإنّه لا يستطيع أن ينفيها.. والعقلانيون – بأقصى درجات تقصّيهم لمعطيات العقل – لا يستطيعون إلاَّ الادعاء بأنّ الغيب هو ميدان من ميادين عمل العقل البشري.

السابق
نهاد المشنوق: لم يعد هناك أية حواجز غير رسمية على طريق عرسال
التالي
ريفي: لم نكن يوماً حالة مسلحة إنما أهلية بردّة فعل دفاعية