التداعيات الاستراتيجية لأزمة قبرص

في الركن الشمالي الشرقي في البحر المتوسط تتلاقى حقول وأنابيب غاز ونفط وأساطيل دول وأزمات حادة ينتشر أطرافها في قبرص وتركيا واليونان وإسرائيل وسوريا ولبنان، وكذلك مصر… الأزمة القبرصية لم تكشف ما تحت جبل الجليد

استطاعت قبرص، رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها وضآلة حجم اقتصادها، أن تتصدر اهتمامات المتابعين للتغير في توازنات القوى الدولية. لقد أصاب قبرص ما أصاب دول الجوار الأعضاء في منطقة اليورو من مصاعب مالية، دفعت حكومتها إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي. كان المتوقع أن تتعامل القوى النافذة في منطقة اليورو مع أزمة قبرص كما تعاملت من قبل مع أزمات إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، إلا أنها لم تفعل. فضلت أن تكون قبرص قدوة لبقية دول منطقة اليورو المهددة بأزمة مالية رغم أن إنقاذها كان سيكلف ما لن يزيد على عشرة مليارات يورو، وهو مبلغ بسيط إذا قورن بالمبالغ التي خصصت لإنقاذ اقتصادات إسبانيا واليونان وغيرهما.
جاء رد فعل الشعب القبرصي على الإجراءات القاسية التي فرضت عليه عنيفا، تركز أغلبه على ألمانيا، الأمر الذي دفع من جديد بموجة أخرى من العداء لألمانيا في معظم أنحاء جنوب القارة. هكذا تعود إلى واجهة النقاش العام في أوروبا «المسألة الألمانية»، وجوهرها اعتبار ألمانيا قوة اقتصادية وسياسية تسعى للهيمنة على بقية القارة الأوروبية. الدوافع كثيرة للغضب ليس أقلها شأنا الفارق في مستوى التقدم الاقتصادي. هناك أيضا المحاولات المكثفة والجهود التي بذلت عبر ما يزيد عن خمسين عاما لغرس فكرة الهوية الأوروبية الواحدة، ولكن من موقف علوي يضاف إلى السعي المتكرر من جانب قادة تيارات الاندماج لتغيير نمط تفكير شعوب أوروبا المطلة على البحر المتوسط وإقناعها بتبني «ثقافة» وأسلوب حياة شعوب الشمال وخاصة الشعب الألماني.

لقد أفرزت الأزمة الاقتصادية العالمية نتائج تتكشف مع مرور الوقت نتيجة بعد أخرى. لا شك أن تراجع اهتمام الولايات المتحدة عن أداء بعض وظائفها وتخليها عن بعض مسؤولياتها في قيادة العالم، وانسحابها المتدرج من مواقع عدد من النزاعات والحروب، واختيار آسيا والباسيفيكي بؤرة جديدة لاستراتيجيتها العالمية بدلا من أوروبا، هذه جميعا وغيرها بعض نتائج الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأميركي في عام 2007. لا شك أيضا أن الفجوة في درجة التقدم الاقتصادي التي تفصل دول شمال أوروبا عن دول جنوبها المتزايدة الاتساع، وتهديد المملكة المتحدة بالانسحاب المتدرج من الاتحاد الأوروبي، وتدهور شعبية ألمانيا بين شعوب أوروبا الشرقية والجنوبية، وتصاعد الضغط من جانب موسكو للقبول بروسيا طرفا فاعلا في عملية الاندماج الأوروبي، كلها وغيرها من النتائج المباشرة للأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت المواقع الضعيفة في المنظومة الاقتصادية الأوروبية.
أثارت أزمة قبرص من جديد مسألة مستقبل منطقة اليورو ومسيرة الاندماج الأوروبي والعقبات التي تعترض طريقها. ولكنها أثارت بشكل أوضح قضية مستقبل قبرص ذاتها. لقد مر أكثر من أربعين عاما على الانفصال الذي أدى إلى تقسيم الجزيرة إلى ثلث يسكنه القبارصة الأتراك وثلثين في الجنوب يسكنهما القبارصة اليونانيون. منذ ذلك الحين والجيش التركي يحتل الجزء الشمالي الذي أعلن نفسه جمهورية قبرصية تركية مستقلة لم تعترف بها دولة أخرى، باستثناء تركيا، برغم الضغوط التي مارستها أنقرة في دول الدائرة الإسلامية. تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الوقت، إذ لم يعد القبارصة اليونانيون راغبين في إقامة وحدة مع اليونان، ولم تعد اليونان بحالة تسمح لها بتشجيع الانفصاليين القبارصة من أصل يوناني، فلا اقتصادها يسمح ولا قوتها العسكرية ولا عضويتها في الأطلسي والاتحاد الأوروبي تسمحان بالتفكير في مواجهة جديدة مع تركيا.
كان يمكن لقبرص أن «تُطَبِّعَ» أوضاعها الداخلية والإقليمية، وتطرح تصورا يعيد الوضع السياسي إلى ما كان عليه قبل أن يقرر القبارصة اليونانيون رفض مبادرة كوفي عنان لتوحيد الجزيرة. كان يمكن لقبرص أن تقيم قواعد للثقة المتبادلة بين شعبَي الجزيرة على مشروع مشترك لاستثمار اكتشافات الغاز والنفط الحديثة، بكل ما يعنيه هذا بالنسبة لمستقبل رغيد. كل هذا كان يمكن تحقيقه في هدوء وبتدرج لولا الأزمة المالية التي ضربت الجهاز المصرفي القبرصي، ولولا قسوة الإجراءات التي فرضتها القوى الدائنة على المصارف والشعب القبرصي، ولولا الضريبة الموجعة التي وجهتها موسكو لنيقوسيا، عندما تركت القبرصيين يحلمون بحل روسي ينقذ اقتصاد قبرص، وينقذ في الوقت نفسه الودائع الهائلة من الأموال الروسية المودعة في مصارف قبرص. يقول معلقون إعلاميون إن روسيا تنكرت لحليفتها الأرثوذكسية لأنها أدركت أن ألمانيا، وقيادات اقتصاد منطقة اليورو، قررت القضاء على جميع المواقع التي تمنح المودعين إعفاءات من الضرائب، وأغلبها أموال تكدست بفضل ممارسات فساد وتجارة غير مشروعة. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه أغلب القبارصة يعربون عن رغبتهم في الرحيل عن منطقة اليورو والاندماج في منظومة الاقتصاد الروسي.
(ستكون الأعوام الستة القادمة فترة صعبة بالنسبة لقبرص. المتوقع أن ينكمش الاقتصاد القبرصي في العام الجاري بنسبة 15 في المئة، وأن تزداد معدلات هجرة الشباب بسبب استمرار تدهور أوضاع البطالة لتصل إلى المستوى الذي تدنت إليه في إسبانيا)، خاصة أن نسبة كبيرة من الوظائف القبرصية كانت في قطاعَي المصارف والسياحة وكلاهما أصيبا بضرر شديد في هذه الأزمة. يكفي أن نعرف أن القطاع المصرفي وحده، المتوقف تقريبا عن النشاط، كان يعادل وحده أكثر من سبعة أضعاف الناتج القومي القبرصي.
ومع ذلك يبقى الأمل في أنه عندما تبدأ قبرص في تصدير الغاز، أي نحو العام 2019، يمكن للأحوال الاقتصادية في قبرص أن تتحسن. عندئذ يتعين على الجاليتين التركية واليونانية الوصول إلى تفاهم، رغم معرفتنا بأن الأجيال الجديدة قد لا تحمل أي ذكرى لأيام الوحدة، وقد لا تستطيع تقدير فائدتها وعائدها. هناك أمل في أن تركيا، الآن، وهى مختلفة عن تركيا السبعينيات، ستتعامل مع الأزمة القبرصية بحكمة أوفر، فهي أقوى اقتصاديا إلى الحد الذي سمح لبعض المسؤولين فيها بالتفاخر على دول في منطقة اليورو وإعلان استعدادهم المشاركة في إخراج أوروبا من الأزمة، وهي الدعوة نفسها التي تطرحها روسيا، وسبق أن طرحها هوغو شافيز قبل وفاته بشهور حين حث الاتحاد الأوروبي على تبني نموذج الثورة البوليفارية.

تردد مؤخرا ضمن حملة الإثارة التي رافقت إعلان المصالحة الإسرائيلية التركية، أن تركيا ما كانت لتقدم على مصالحة إسرائيل على أيدي باراك أوباما لو لم تكن قد حصلت على وعد أميركي يتعلق بمستقبل الوحدة القبرصية ومرور الغاز القبرصي عن طريق الأراضي التركية إلى أوروبا.
هناك أيضا من يتصور أن المصالحة ربما كانت بغرض تنسيق عمليات التدخل في سوريا، والاستعدادات الجارية لرسم خريطة جديدة لاستراتيجيات وأمن منطقة الركن «الشمالي الشرقي» في البحر المتوسط، حيث تتلاقى حقول وأنابيب غاز ونفط وأساطيل دول وأزمات حادة ينتشر أطرافها في قبرص وتركيا واليونان وإسرائيل وسوريا ولبنان، وكذلك مصر، وإن بدت الآن بعيدة.
يوما بعد يوم، يزداد اقتناعي بأن ما كشفت عنه الأزمة القبرصية حتى الآن لا يتجاوز ما يكشف عنه عادة جبل الجليد.

السابق
العلاج بـ”سُم النحل” في غزة!
التالي
حزب الله ومفهوم الاستقرار