بين الفايسبوك ورسائل جدتي المكتوبة

سافر حسن قرة علي من قريته البابلية الجنوبية قاصدا استراليا، على ما يقول اهله وجيرانه، واختفى طيلة 3 عقود من الزمن. لكن وفجأة وبقدرة قادر وصل الى والدته خبر يبشرها بوجود ابنها حسن على قيد الحياة وهي التي كانت تدعو على الدوام ألا يميتها الله قبل ان تكّحل عيينها برؤية حسن. في استراليا، القارة الواسعة، اكتشف احد ابناء البلدة وجود اسم حسن على قوائم الانتخابات ضمن المدينة نفسها التي يقيم فيها، فاتصل به واتفقا على زيارة الاهل في لبنان. وكانت مفاجأة أهله ان لحسن صبيتين أحبتّا لبنان كثيرا وصارتا تزورانه كل صيف. هذه القصة تعود الى آواخر الثمانينات.
رحلت الوالدة بعد بضعة سنوات كما طلبت من الله. والسؤال لو كان الفايسبوك متوفرا منذ سفر ابنها حسن هل كانت ستتعذب طيلة هذه العقود بحثا عنه؟

شغف تحوّل الى ادمان
اليوم، تزور دولت رضا أهلها في لبنان يوميا!. وهي التي تعيش في زامبيا التي تبعد بالطائرة 9 ساعات. طبعا لن يصدّق أحد هذه الخبريّة لكنها صحيحة مئة بالمئة. كيف؟ طبعا عبر الفايسبوك وتتواصل مع أهلها ووالدتها التي رحلت قبل شهور.
هذا الاختراع الذي سميّ )فايس( أي وجه + (بوك) أي كتاب ما هو الا كتاب صور نفتحه لنكتب فيه يومياتنا وذكرياتنا القديمة والجديدة. انه حياتنا التي (نفلفشها) كل يوم كالجريدة.
كنت لا زلت طفلة صغيرة حين كنت أجلس قرب قنديل الكاز في منزل جدتي أم خليل لاستمع إليها وهي تُنصص خالتي بعض الرسائل الى خالي في بيروت، والتي كانت تبدأ عادة بـ(ترجومة) أي مقدّمة لا بد منها لدرجة اني حفظتها كالفاتحة. وكانت رسائلها تصل إلينا من شدّة الشغّف المُوجع فيها قبل أن تقع على الورق.
هذا الشغف انتقل، هو نفسه، الى حالة تُعرف بالادمان على استعمال الإنترنت، والتألم في الوقت عينه عند انقطاع (الكونكشن)، أو حين نتفاجأ بأن المرسل اليه لم يرّد على (مساجاتنا) رسائلنا.

خدمات الفيسبوك المنزلية
خدم الفايسبوك المهاجرين والمسافرين خدمة جلّى. فأم أحمد يحيى التي زوّجت ابنتها من مغترب يقيم في فنلندا باتت أشطر منها بالتعامل مع (الماسنجر)، وباتت ابنتها تطبخ مباشرة وصفات أمها في بيروت كأنها مقدمة برنامج على محطة فتافيت، وبات حفيدها يكبر امام ناظريها يوما بعد يوم.
حالة أم أحمد تشبه حالات معظم الأمهات في الجنوب، اللواتي استفدن ايضا من خدمات (السكايبي) في التحادث وفي تجوال الكاميرا داخل البيوت هنا وهناك.

لا يزال الصوت أولا
الا ان زينب رضا لم تُرضها فكرة الفايسبوك كثيرا، حيث لم تتخل عن التلفون في محادثة ابنيّها المسافرتين يوميا، ومهما كانت الكلفة. وتبرر ذلك قائلة:" ليطمئن قلبي". وكذلك الامر نفسه مع حسين فارس الموجود في السعودية، الذي رغم ولعه بالفايسبوك الا انه بالنسبة اليه مجرد تسلية في غياب العائلة في لبنان، ويرى انه لم يستغن عن الهاتف أبدا في موضوع التواصل اليومي مع الزوجة والأولاد.
دولت لا تترك دقيقة تمرّ دون ان تتحادث مع إخوتها وأخواتها سواء في لبنان أو في كندا.
أما موهانا الأحمد التي تعيش في غينيا تقول:" أشعر كأني مع أهلي في لبنان عندما أراهم أمامي على الصفحة، وعندما أرى صورهم، وأكتب (كومنت) على صورهم. لكن عندما ينقطع (الكونكشن) أشعر أني بعيدة عنهم". ورغم ذلك لا تعتبر نفسها مدمنة على النت.

شبكة دولية مهاجرة
في كل بيت من بيوت الجنوب تقريبا ثمة مهاجر الى الخارج، فميرنا أم لإبنتين تعيش معهما في فرنسا. تتواصل مع أهلها في بيروت ايضا عبر الفايسبوك، ومع أخيها في الكونغو، ومع ابن خالتها في نيجيريا، ومع إبنة عمها في غينيا، ومع ابناء عمومتها في كندا.
ورغم حجم التواصل المتوفر بين الجميع سواء في لبنان او في الخارج الا ان المسافرين يعانون ألم البعد، ويتحسرّون على لبنان، ولولا الوضع الاقتصادي السيئ لكان الجميع قفل عائداً كما يقولون. فهذا علي عز الدين الذي سافر الى الكويت، بعد ان تخرّج صيدلياً، ورافقته زوجته التي كانت تدرس ببلجيكا، يعيشان على "إنبوب المصل" الذي يربطهما بالأهل وهو الفايسبوك.

عودة الأهل والجيران ليس الى الساحة
هذا بالنسبة للمسافرين والمهاجرين، أما من جمعهم الفايسبوك بعد فراق قسري كالجيران والأهل والأصدقاء فثمة قصص غريبة عجيبة.
فحمزة جمال لم يلتق سلوى منذ أكثر من عقد، تواصلا عبر النت، وكذلك الامر بالنسبة لسلوى وجنان الرفيقتان السابقتان منذ أيام المدرسة، وايضا بالنسبة لفاطمة وسكينة التي سافرت الى ألمانيا ولم تعد تعرف إحداهن أخبار الأخرى، فكان الفايسبوك سبيلهما الى تعريف الابناء على بعضهم البعض وعلى اعادة (فلش ألبوم) الذكريات و(الشيطنة). والأمر نفسه بالنسبة لحسان حطيط المسافر الى فرنسا والذي احتل صفحات الفايسبوك ليكمل نقاشه الذي لم ينته مع رفاق الأمس.

لمّ الشمل الافتراضي
كما فرّق السفر العائلة فانه عاد وجمعها عبر الفايسبوك. من خلال قصة رولا شهاب التي بقيت وحدها في لبنان بعد ان سافر جميع إخوتها واخواتها حيث تقول" بلشي عدّي أخواتي: إيمان، وفاء، زينة، هناء، رانية، ومحمد بأميركا. أما ميرفت فبالكويت، وعلي في دبي.
وتضيف:" انا اعتبر الفايسبوك أهم وأرخص وسيلة للتواصل مع احبائي، فقبل الفايسبوك كان هناك شعور بالبعد كبير ولم يكن ثمة علاقات بيننا. الفايسبوك قرّبني من إخوتي كثيراً. والشيء المهم انني تعرّفت على شخصية إخوتي عبر الفايسبوك اكثر مما عشت معهم لسنوات. لماذا؟
سأقول لك لماذا؟ لأن الفايسبوك عبارة عن خزان فارغ يبدأ الشخص بملئه بما يختلج بداخله من مشاعر وعواطف ومشاكل وأفراح وأحزان دون أن يشعر.
فمنهم من رأيته يمتلئ بالحنين للعودة الى الوطن، ويختلج قلبه بأحاسيس رائعة، ومنهم من هو مشغول بحاله وأولاده، ومنهم من لا يعّبر بل يقرأ فقط، ومنهم من لا يحبّ التواصل أبدا مهما حصل. لي أختان لا تفتحان الفايسبوك، مع العلم انه متوفر لديهما، وعندي أخ لا يتواصل ابدا معنا مع أنه رجل أعمال.

لمن الفايسبوك؟
تتابع رولا قائلة:" اعتقد ان الفايسبوك هو لمن يكنّ مشاعر جياشة أولا، ويحبّ الناس والمجتمع، وللإنسان الإجتماعي، ولمن يملك اوقات فراغ كثيرة. لقد ساعدني الفايسبوك على أن اتعرّف على أولاد أختي في أميركا حيث أحببتهم، كأنهم أمامي، عبر الصور.
وتختم رولا:" الفايسبوك بدقيقة بخليكي تغيري مشاعرك". وتشرح مقولتها قائلة:" كانت أمي خلال عيد الأم هذا العام تؤدي مناسك العمرة، حزنت لذلك كونها بعيدة، ولكن عندما فتحت الفايسبوك وجدت ان أختي صورتها وهي بالكعبة الشريفة تطوف ونشرت صورتها على صفحتها، فانقلبت مشاعري سريعا من حزن الى فرح".
أما الجدة سهيلة غساني، ورغم سنّها ومرضها، فإنها تقبع خلف شاشة الكمبيوتر لترى ما كتب ابناؤها واحفادها، ولترى صورهم، ولتتعرف عليهم، وهم المنتشرون في مختلف بقاع الارض.

وسيلة استرجاع الكترونية
غاب أولاد يوسف فاضل عنه بعد سفرهم مع والدتهم الى روسيا، لكنه بدأ يبحث عن حلّ للتواصل معهم فلم يكن أمامه سوى الفايسبوك والانترنت من وسيلة افتراضية، كون القانون في صف الوالدة المختفيّة عمداً، وكذلك تحاول ثلاث فتيات البحث عن والدتهم الفرنسية التي لم يسمعن صوتها منذ اكثر من عشر سنوات.

التشات السياسي
كالعادة استخدم اللبنانيون المقيمون الفايسبوك للتشاتم المضاد، بدءا من نشر تعليق ضد هذا الزعيم أو ذاك الى نشر مقال مضاد الى نشر كاريكاتير، اضافة الى الأدب والشعر والصور العائلية الخاصة واظهار الإبداع والموهبة، وربما عرض الجمال وفتح العلاقات وكل ما هنالك من امكانيات الكترونية استفاد منها اللبناني بشكل كامل، اضافة الى انشاء مجموعات و(غروبات) تتعلق بقضايا قد تكون مهمة كقضية قانون الانتخاب، أو لأجل قضايا تافهة كإنشاء موقع خاص بالحُفَر وإلى ما هنالك.
الا ان بعض المناضلين استفاد من النت للتعبير عن ارائه في قضية وطنية كمنع دخول المغنيّة لارا فابيان الى لبنان بسبب تأييدها الكيان الصهيوني! أو للتعبير عن الغضب بسبب الحكم المخفف عن العميل فايز كرم، والى ما هنالك من قضايا يومية تكبر وتكبر وتكبر الى ان يحلّ محلها قضية ثانية تغطي الأولى… وهكذا دواليك.
لقد ساهم الوضع السوري في قسمة المجتمع اللبناني قسمة عامودية بين مؤيد ومعارض. فقد انشغل معظم اللبنانيين بقضايا الرد على بعضهم البعض، بحيث بات الفايسبوك ملجأ كل من يخاف المواجهة المباشرة فيختبئ خلف اسم وصورة وتعبير وكليشيهات يصطاد من خلالها العدو او الصديق، ويجتذب من يرغب باجتذابه، لدرجة باتت معها الحياة الاجتماعية خاوية من الحرارة، وتحولت الى قبو لا نحتاج فيه الا الى سندويش وكوب نسكافيه وخط كهرباء، ولو مسروقا. اذ نجد الكثيرين يجلسون صامتين امام شاشات معتمّة لا ينتبهون لمرور الوقت الا حين ينقطع التيار الكهربائي. لعل لإنقطاع التيار هنا حسنة وحيدة فقط لا غير.
هذا الادمان شجع على الابداع الفني، لكنه نال من الانجذاب نحو المطالعة والقراءة والسينما والمسرح والطبيعة. وأسوأ ما في الامر ان حالات زواج عديدة انتقلت من العالم الافتراضي الى عالم الواقع. واستمرت بنجاح كتأكيد من الطرفين على صوابية تحوّل حياتنا الافتراضية الى حياة ملموسة وواقعية.
هذه التقنية ابتلعت الفرد وسحبته من تواصله الانساني، كما انها علقته على حبال أشد رخاوة هي تقنية (واتس آب).

السابق
بوادر معركة ساخنة بين قوى 8 و14 آذار على إســقاط الحكومة أو تثبيتها
التالي
حلمي يهرب من جمهوره!