دروس أبو منير في ذكرى الانسحاب

أبو منير مرّ من منيارة. في 26 نيسان، ذكرى انسحاب الجيش السوري من لبنان، يتذكر مساوئ الضباط السوريين مَن أكل ضربهم. أما الآخرون، فيروون قصصاً تضحك اليوم أكثر مما أبكت في السابق

لأبو منير، مساعد مسؤول منطقة عكار السابق في الاستخبارات السوريّة، اسم آخر في البلدة التي حكمها عشر سنوات: الله. أبو منير عريض، طويل: متران يزيدهما النفوذ مترين. أبو منير عملاق يستطيع كاهن القرية تعليق خطايا رعيته على شاربيه السميكين اللذين يطولان أذنيه. طويل، عملاق وسمين يحب الرمان. يا ويل المنزل الذي يمر به على غفلة ولا يجد في براده جاط رمان ينتظره. ويا ويل من يقطف رمان بستانه ولا يهدي أبو منير ثلثي الحصاد. يخيّل إلى من يرى شراهة أبو منير في أكل الرمان أن قصة الكتاب المقدس الأولى كانت عن «رمانة حواء» لا عن تفاحتها.

حين أعلن أبو منير مرة أنه الله إثر استنجاد أحد الواقعين بين مخالبه بالإله الواحد، كفر أحد المارة بالله، فما كان من أبو منير إلا أن أخفاه ثلاثة أسابيع. الدرس الأول: «حين يقول أبو منير إنه الله، قل: لا إله إلا الله».
في الكاراج الذي حوّله أبو منير سجناً، كان يحرص على رمي المتخاصمين في الغرفة ذاتها ليتسلوا بوسيلة تعذيبه الخاص: أضاء في الكاراج لمبة مئة شمعة ليأمر أسراه بإطفائها من طريق النفخ. وهكذا يبدأ الموقوف النفخ على اللمبة بلا انقطاع أملاً بإطفائها. أما إذا انكسرت اللمبة، فتحل محلها أخرى بمئتي شمعة، وتستمر اللعبة. الأنكى: في ذلك ما يضحك أبو منير. الدرس الثاني: «حين يضحك أبو منير، مهما كان سبب ضحكه، اضحك». في مدرسة القرية يدرسون عن هديل الحمام، زقزقة العصافير، خرير المياه، فحيح الأفاعي، نقيق الضفادع و… ضحكة أبو منير.

يضحك وفي فمه ذهب: كل بضعة أيام، يختار أبو منير سناً غير ذهبية في فمه ليضربها بألم عجيب، لا تنفع معها حشوة أو رصرصة، فلا يتوقف عن الشكوى حتى يبدل السن «الموجوعة» بسن ذهبية على حساب طبيب الأسنان طبعاً. هكذا تلألأت أسنانه في ضحكة صاخبة لماعة، تلائم ربطات عنقه. يعشق أبو منير ربطات العنق الفوشيا. حين يمر عرس في البلدة يهرع لارتدائها مع بذلته البيضاء تمهيداً لتوقيف سيارة العروسين وإنزالهما، منادياً مصور أعراس القرية: «وله رشيد صور هون». ويقف بين العروسين، معرّماً وشابكاً إبهام أحد يديه في زناره. لم تعرف الكاميرا ضيفاً يعتز بها ويقدرها بوقفته مثل أبو منير المولع بالصور. يُمسّد شاربيه ويقدّم صدره، حتى تخاله العميد لا مساعده. رتبته العسكرية إذاً: «مساعد عميد». الدرس الثالث: «حين تصادف مساعد عميد في غياب العميد، عامله كأنه العميد وأكثر».

وصل «سبحانه» إلى البلدة القريبة من حلبا إثر خلاف بين مجموعة من يسارييها ومجموعة من يمينيي بلدة مجاورة. اختار لعسكره واحداً من أجمل منازل البلدة وأقدمها. في ساحتها أقام لهم غرفتين أيضاً، وعلى مفرق البلدة منزلاً وحاجزاً.

من يومها بات كيلو الأرز أو السكر أو الطحين يتحول إلى نصف كيلو فور اجتياز الحاجز. نصف علبة «البيكون» لأبو منير والنصف الآخر لمن اشتراها. يا الله كم كان يحب أبو منير «البيكون» واللبنة والشنكليش والبيتزا والتفاح والموز والليمون وكل شيء… كل شيء، حتى ملاقط الغسيل. روبن هود الاستخبارات السورية يأخذ من الأغنياء، من دون أن يعطي الفقراء. من دخل الغرفة العسكرية قرب المفرق وجد ألوان خوات وأشكالاً لا يتخيلها العقل. كانت الغرفة «هيبرماركت» قائمة بذاتها. ورغم ذلك، حرص أبو منير في نهاية كل أسبوع قبيل توجهه إلى بلدته في سوريا حيث تدير أم منير دكاناً صغيراً على المرور بدكاكين البلدة ليُحمِّل صندوق سيارته بما يملأ دكان زوجته: هنا الخوّة علبة بطاطا وهنا علبة مساحيق تنظيف وهنا لوحا «تويكس». بالمناسبة، يحب أبو منير الـ«تويكس» كثيراً.

لا طبيب الأسنان كان يصدق ولعه بالأسنان الذهبية، ولا باتيسري البلدة كانت تصدق هوسه بإحياء حفلات أعياد الميلاد: في نهاية كل أسبوع، قبيل مغادرته إلى سوريا، كان يطلب قالب حلوى للاحتفال بعيد ميلاد أحد أبنائه. «لمنير 51 شقيقاً»، كان يقول صاحب الباتيسري ويضرب على رأسه. أسبوعياً أيضاً كان يمر بكندرجي البلدة ليرمي في وجهه حذاءه، طالباً منه تجديد النعل. وإن كان النعل جديداً، فما عليه إلا إضافة نعل آخر أجدد. وهكذا تراكمت النعال في حذاء أبو منير حتى تجاوز طول الكعب في حذائه عشرة سنتيمترات. الدرس الرابع: «إياك والضحك من حذاء مسؤول، مهما كانت حالته، سيطعمك إياه».

ومن الكندرجي إلى الحلاق الذي كان يرتب له شاربيه مرة بيد يرجفها الخوف، فعضّ المقص شفة أبو منير الذي ما كاد يرى دماءه حتى غطّ على قلبه، فترك الحلاق لأبناء البلدة إسعافه واختفى. الدم البشري يخيف أبو منير، أما دم الأبقار فيشهيه، اسألوا جزار البلدة: كان الأخير مرّة في أمسّ الحاجة إلى المال حين حضر طيف أبو منير في ملحمته. «ابتسم» الجزار وبدأ توضيب «الهدية». لكن سيارة توقفت في الساحة على وقع مناداة أبو منير لسائقها الذي لم يقبل إلا أن يدفع عن «سيادة العميد» ثمن اللحمة.

حفظ أبو منير أجور أبناء البلدة وماركات ثيابهم، بينما عجز عن حفظ أسمائهم. بقي المصور غسان شدياق في نظره عصام. حتى حين نبهه الأخير إلى أن اسمه غسان لا عصام، أجابه: «ما تواخذني يا عصام، أنا أنسى كثيراً». وقد قصده غسان مرة ليطلب مساعدة، وشرع بكتابة رسالة يوقعها له «مساعد العميد» الذي لم يكد يقرأ نص عصام: «حضرة الأستاذ (فلان الفلاني) الرجاء ملء سيارة المصور غسان شدياق بأربعين ليتر بنزين، وشكراً» حتى جنّ جنونه. وأنّبه قائلاً: «نحن ما عنا رجاء مو رجاء. أكتب: املأ السيارة بنزين ولاه».

بعد عشر سنين، نجح أبو منير في مهمته الأساسية: اشترى فيلا لنفسه ولزوجته في بلدتهما السورية، فرض «الأمن والاستقرار»، فتفت الحياة السياسية وقضى على الحراك الحزبي، سواء القومي أو الكتائبي أو الشيوعي الذي كانت تشهده البلدة، مضاعفاً عدة مرات عدد المنتسبين (ما دام أبو منير في البلدة) إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.

أصابع الفرعون لا تزال حاضرة

نادتهم أمهم: «هوذا فرعون البلدة»، فهرعوا إلى شبابيك السيارة يتفرجون عليه. ضاعت الأعين بين كرشه الذي يغطي الشرفة حيث يقف، شاربيه العريضين وفوضى ملابسه، إلى أن حرك أصابعه ليطلب من السيارة التوقف. أخذت أصابعه، الضخمة أساساً، تتضخم أكثر فأكثر مع كل خطوة وهتاف: «عشو عم تطلعوا ولاه». «فاكريني بابا نويل ولاه». «انقبروا انزلوا من العرباية ولاه». كلما رقع الكف سحسوحاً على رقاب الأطفال ازداد حجمها أضعافاً. ولم يعد يميز الطفل من الأم التي تحاول إبعاده عن أبنائها. إلى أن صدر أمر جديد «انقبروا اطلعوا بسيارتكم ولاه، وما تفرجوني وجكم مرة تانية».

عاشوا السنوات محاولين إخفاء وجوههم عنه: لا تكاد تمر سيارته في حيهم حتى يفرّوا هاربين، ولا تطأ قدمه أرض منزل حتى يختبئوا في أحد حماماته، إلى أن حوصر أحدهم في محل يبيع الخضر في القرية، سد كرش الفرعون بابه على غفلة من أهله. «شو اسمك ولاه»؟ سأله الفرعون. فوضع المراهق رأسه في الأرض خشية تلاقي وجهيهما، مستجمعاً شجاعته ليهجئ عبثاً اسمه. لكنه عجز عن النطق، كرر المحاولة ثلاث مرات حتى نجح في الرابعة. لكن أبو منير ما كان يسمعه ولا يأبه حتى بوجوده في الدكان: كان يقلب التفاحات بين يديه ليختار أنضجها، بعدما ملأ فمه بموزة.
فهموا اللعبة: موزة تقربك من الفرعون، وتفاحتان تجعلانك طفله المدلل، فتتصالح كفه مع وجهك، لكن لا شيء سيصالح وجهك مع كفه. لا تزال أصابعه حاضرة هنا، تتضخم أكثر فأكثر مع كل خطوة وهتاف: «عشو عم تطلعوا ولاه». «فاكريني بابا نويل ولاه». «انقبروا انزلوا من العربايي ولاه».

السابق
الاخبار: جنبلاط خارج الأكثرية
التالي
النهار: الحريري وجنبلاط يشكلان قبل اللقاء جبهة رافضة للنسبية