من القداسة إلى الرعب والسخافة!!

بعد أن خابت كل محاولات ردعها عن صليبها، احتضنت ابنة «مدينة الشمس» عذابات آخر مساميره. شهيدة أخرى على مذبح الإيمان، ارتقت «بربارة» فصلاً جديداً ومتجذّراً في تاريخ الفداء السوري الطويل.
في الذاكرة الاجتماعية، قصصٌ لا تُعدّ ولا تُحصى عن آلامها وسنين ملاحقتها، أغنيات شعبية، وأطباقٌ، وعاداتٌ وطقوس. ولدى الجدّات يقين حين يتكلمن عنها، يوهم السامع للحظات أنهن حقّاً كنّ مع من ينتظرون في أسفل الجبل رأس «الفادية» الذي دحرجته ضربة سيف والدها الأخيرة، وإلى قربه رأس جوليانا التي أعلنت الولاء والإيمان للمخلّص الباسم على وجه بربارة، والذي كان يحترق مع قمحٍ وطمأنينة، في نيران الحقد والخوف التي جُهّزت لها.

وعلى الرغم من كل محاولات تجريدها من هوية شعبها، وطلاء وجهها بالهوية اليونانية تارة أو المصرية طوراً، إلا أن القديسة عصت «الكارهين» مرة أخرى، فمارست سوريّتها بكلّ أشكالها، وهي التي جرّدت نفسها من الخوف والأنانية والقصور والأحقاد والجدران، لتنضمّ إلى قافلةٍ أبدية من الفدائيين الذين نسجوا بدمائهم روح هذه الأمة المعلّقة على حتمية القيامة المتجدّدة.
حكاية قدّيسة
هي ابنة العائلة النبيلة التي عاشت في مدينة «هيليوبوليس» أي مدينة الشمس، التي تسمّى اليوم بعلبك، وهي طفلةٌ وحيدةٌ لا أخَ لها ولا أخت، فَقدَت أمّها وأضحَتْ يَتيمَةً، وهي لمّا تزَلْ في أسبوعِها الأوَّل. وفي سنين شبابها الأولى، حاول والدها عزلها عن العالم الخارجي والاختلاط، لكنها لجأت إلى المعرفة، واستطاعت أن تتواصل مع أحد الرهبان المسيحيين، في حقبة اضطُهِدت فيها المسيحية، واعتُبرت جريمة كبرى، وإيماناً يجلب إلى صاحبه أعظم الويلات.
وعندما صارحت والدها باعتناقها المسيحية، ودَعَته إلى حمل هذه الرسالة هو أيضاً، قرر قتلها، فما كان منها إلا الهرب إلى الحقول والوديان، تُعمّد الأطفال وتُلهِم الرعاة والمزارعين.  
أمل بربارة برحمة والدها وتعقّله، أعادها يوماً إلى قصره، فما كان من الوالد الحاقد إلا أن سلّمها إلى الحاكم الروماني مرقيانوس، إبّان حكم الإمبراطور مكسيمينوس الأول، فحاول الوالي ردعها عن المسيحية وإقناعها بفساد هذه الرؤية، لكنه سرعان ما اصطدم بشدة إصرارها وقوة يقينها.
حُكم على بربارة بالتعذيب، فطاف بها جنود الوالي عارية بين الحشود. وتقول الحكايات الشعبية أن نباتاً يسمى باسمها، كان ينبت في طريقها ويخفي جسدها عن الأبصار، فجمع الجنود نبات البلان، وألقيت بربارة في وسط النار، وكان أبناء مدينتها يرمون حبوب القمح في النار لتزداد وقوداً واشتعالاً، من هنا ارتبطت حكايتها بصنع الحلويات.
وتقول الحكاية أن النيران لم تؤذِ القديسة، فأمر الحاكم بتمزيق جسدها بأمشاط من حديد، وكانت بين الحشود امرأة تُدعى جوليانا، تأثرت وأعلنت إيمانها بالمسيح، فأمر الحاكم فوراً بتعذيبها إلى جانب بربارة، وطلب الوالد قطع رأس ابنته بيده، فسُمح له بذلك، ومن على تلة عالية، تدحرج رأسا الشهيدتين، وسط هتاف البعض وتصفيقهم.
ويحكى عن صاعقة انقضّت على الوالد ذات اليوم، وعن افتراضات أخرى تبدو من نسيج لا وعي الشعب الذي أراد الانتقام للشهيدة.

ويُحكى أنه ومنذ ذلك اليوم، يحتفل أبناء شعبنا في الرابع من كانون الأول بعيد القديسة بربارة، وتؤكد بعض المصادر أنه حتى العام 1582 بعد ميلاد المسيح، شارك المسلمون، من أبناء هذه البلاد، المسيحيين في احتفالات تمجيد ذكرى الشهيدة الوطنية بربارة، التي استشهدت على يدي حاكم روماني محتل.
كما يجري تكريم القديسة بربارة كشفيعة لأصحاب الحرف والصناعات الخطيرة كصنع البارود والأسلحة وباقي المعادن، وشاع تكريمها في لبنان خصوصاً وفي سورية عموماً، بإشعال النيران وإقامة حفلات الدبكة والغناء الشعبي، كما تُقام في عيدها احتفالات شعبية كبيرة.
اذاً، ما الذي جلب «اليقطينية» ووجوه الأشباح والوحوش والرموز السخيفة، إلى حياة هذه الشهيدة الوطنية؟ ومن صلبها مرة أخرى؟
وبعد أن كان أبناء شعبنا يخرجون إلى ساحات القرى والمدن ويطوفون على بيوت الجيران والأقارب والأصدقاء منشدين «زوزاحين….زوزاحين، بدنا زيت وبدنا طحين»، و«هاشلة بربارة مع بنات الحارة، عرفتها من إيديها، من لفتة عينيها، من هاك الإسوارة»، ويأخذون من بيوت الأقارب بعضًا من الحلويات والمأكولات أي ما يشبه «العيدية«، أين الزيت وأين الطحين وأين «العوامات» أو «الفواشات» التي من المفترض أن تدل على جسد القديسة الذي تناثر أشلاء بين الدماء، كما تتناثر «الفويشات» المصنوعة من الدقيق والسكر في الزيت.
يقول البعض أن الخلط بين عيد القديسة بربارة وعيد جميع القديسين « Hallows’ Eve »، هي مسألة برئية، نتجت عن انفتاح أمم العالم على بعضها، وكثافة وسائل الاتصال والتفاعل فيما بينها، لكن منطق الأمور يذهب بالمسألة إلى أبعد من ذلك.
رأس اليقطينة المضاء، هو تعبير قديم عن السخرية من تكريم المسيحيين لجماجم القديسين وبقاياهم، في الحقبة التي استشهد فيها آلاف المسحيين، فداء لهوية بلادهم التي نشأت على مبدأ الفداء منذ الأزل، حتى وإن كانوا يستشهدون تحت عنوان إيمانهم الديني بيسوع المسيح.

أما الأزياء التنكرية المرعبة، فتعود إلى طقوس الممارسات الخاصة بشعب «السلتيك»، «Celtic People» الذين عاشوا في الجزر البريطانية، والتي بطريقة معينة، أُسقطت في ما بعد على الطقوس المسيحية، وخصوصاً الغربية منها.
وشعب السيلت Celts كان يؤمن بإله الموت «سمهاين»، ويحتفل به في فصل الخريف. وكانوا يعتقدون أنه في يوم عيده أرواح الموتى تجوب الأرض وأنه يجب استرضاؤها لكي لا تصنع شراً. ولتمثيل هذا الطقس كان الناس يقتحمون البيوت كما تفعل الأرواح ويطالبون باسترضائهم «يجمعون مالاً»، كما كانت تُقدّم التضحيات البشرية في تلك الليلة أيضاً.
في الخلاصة، ألا يشبه تحويل رمز القديسة الشهيدة إلى رمز للرعب والسخافة، فعل تحويل «بعل» من إله سوري للخصوبة إلى «شيطان» يحرّك المفاسد وفقاًُ للرواية اليهودية؟ .. وهي حتماً ليست من «محاسن» الصُدف.
ولا يتبقى لنا، سوى دعوة المعنيين في حفظ التراث الوطني، إلى أن يهبّوا في الدفاع عنه، خصوصاً بعدما اجتاحت لبنان، أقنعةٌ لا تليق بعيد البربارة، ولا تعبّر عن أصالة شعبنا.  

السابق
الإسلامات السياسية
التالي
فتـــرة تحـــول ســـريـع؟!