التعليم جنوباً: المحاصصة اصل البلاء

يبدو أن دور التعليم الرسمي في لبنان يتضاءل ويضعف أسوة بكل مؤسسات المساحات المشتركة بين اللبنانيين التي تشكل القاسم المشترك بينهم.
في خمسينات وستينات القرن الماضي شهد لبنان حركة شعبية مطلبية واسعة استطاعت فرض مطلب توسيع التعليم الرسمي وتطويره وبناء مدارس في كل القرى وثانويات في مناطق مختلفة. واستطاع التعليم الرسمي أن يضاهي التعليم الخاص في أماكن كثيرة وأن يتفوق عليه خصوصاً في المرحلة الثانوية في عدة مناطق. إلا أن الأزمة بدأت تظهر علاماتها على التعليم الرسمي العام مع بدايات الحرب الأهلية، ومع مطلع السبعينات حصلت هجرة واسعة من الجنوب إثر الاعتداءات الإسرائيلية المتعددة ثم جرى بناء كانتون جنوبي ملحق بالاحتلال الإسرائيلي مما أفرغ قرى كثيرة من سكانها الذين نزحوا إلى المدن الأساسية وألحقوا أبناءهم في مدارسها. فبدا وكأن النزوح من مناطق الجنوب شكل عاملاً أساسياً في تدهور أوضاع مدارس الجنوب وخلوها من الطلاب.
وبعد التحرير عام 2000 وفي خطوة ذات بُعد سياسي تتعلق بالزبائنية لجأ مجلس الجنوب ومن ورائه قوى سياسية إلى بناء مدارس عديدة في القرى الجنوبية بدون إعداد دراسة جدوى تعليمية تلحظ عدد الطلاب وإمكانية انتسابهم، وبدون الوعي بشروط عودة الأهالي إلى قراهم المحررة، فكان أن عاد الجنوب إلى الوطن لكن الوطن لم يصل إلى الجنوب، ولم تؤمن الشروط الضرورية لعدد الأهالي وتأمين فرص عمل كريمة. وتحول مشروع بناء المدارس إلى باب لنهب المال العام من خلال تلزيمات البناء والترميم ومن خلال التعيينات التي اعتمدت على الولاء السياسي.

من جهة أخرى عاشت المدن الرئيسة في الجنوب وخصوصاً صيدا وصور أزمة مؤسسات تعليمية رسمية فلم يجر بناء مدارس جديدة تلبي الحاجة الفعلية. فإذا كانت أزمة الجنوب الداخل هي وجود مباني فارغة وأساتذة لا يعملون فإن أزمة الساحل وخصوصاً صيدا وصور غياب المدارس القادرة على استيعاب العدد الهائل من الطلاب المقيمين في تلك المدن.
من جهة أخرى، فإن الحروب الأهلية المتتابعة قد أتت على المساحات المشتركة بين اللبنانيين ووقعت كلاًّ منهم للارتداد إلى الموقع الخاص به وبمذهبه وبدينه، وإلى التفتيش عن مؤسسة تعليمية ذات صفة مذهبية تحفظ لكل مجموعة خصوصيتها التي صارت شرطاً لوجودها وللدفاع عن مواقعها في السلطة. فانتشرت المدارس ذات الهوية المذهبية وعرفت رواجاً كبيراً من الأهالي واستطاعت إدارة هذه المدارس تأمين الكادر التعليمي ذو الأهلية المناسبة والحصول على نتائج جيدة في الامتحانات للطلاب مقابل تدهور واسع في المستوى الأكاديمي للأساتذة في التعليم العام.
تبقى نقطة أساسية لعبت وتلعب دوراً في أزمة التعليم الرسمي في الجنوب وهي المحاصصة بين القوى السياسية السلطوية، فكل مدير مدرسة أو مسؤول الوحدة التربوية في كل مدرسة يجب أن يحظى برضا الزعيم السياسي للمنطقة نفسها والكفاءة والمؤهلات لا تعني شيئاً في نظام يقوم على أساس الزبائنية السياسية والمحاصصة الطائفية.

ما هي المشاكل التي يواجهها التعليم في منطقة الجنوب أسوة بغيرها من المناطق اللبنانية، وهل يمكن تخطيها وفتح باب التطوير أمام العملية التعليمية؟ العضو السابق في الهيئة الإدارية لرابطة أساتذة التعليم الثانوي وليد حشيشو يحاول الاطلالة على المشاكل وقراءتها بموضوعية.

المحاصصة
يقول حشيشو: "بصرف النظر عن الاختلال الواضح لمصلحة التعليم الخاص، فإن التعليم الرسمي وخصوصاً في الجنوب يواجه تحديات كبيرة يمكن الإشارة إليها، أولى تلك التحديات هي المحاصصة، وخصوصاً أن التعليم الرسمي لا يلقى العناية اللازمة من وزارة التربية ولا الاهتمام المطلوب ويعود ذلك إلى تأثير الوضع السياسي على العملية التربوية والتعليمية".
ويوضح حشيشو هذه النقطة من خلال المثل الذي يطرحه: "لمدير المدرسة دور هام جداً في المدارس، إلا أن اختيار المدراء وتعيينهم يخضع إلى المحاصصة والمحسوبيات مثل ما يتم في القطاعات كافة. وبالتالي يتم الاستغناء عن ذوي الكفاءة من أجل إرضاء هذا الفريق السياسي أو ذاك".

التعاقد
ويشير حشيشو إلى سياسة التعاقد التي تتبعها الوزارة "فمنذ سنوات طويلة والوزارة تقدم على التعاقد مع الأساتذة ويشكل هذا الباب منفعة لعدد من السياسيين الذين يضغطون لتوظيف أتباعهم وبالتالي لا نجد الشخص المناسب في المكان المناسب. حتى في المباريات التي أجريت لتثبيت المتعاقدين فقد كانت مقتصرة على المتعاقدين أنفسهم بدل أن تكون مفتوحة للجميع مما حرم المؤسسات التعليمية الرسمية من كفاءات يمكن أن تساهم في رفع مستوى التعليم".

إقفال دور المعلمين
ويرى حشيشو في سياسة إقفال دور المعلمين وكلية التربية خطوات تدفع بالوضع التعليمي إلى الوراء. "لقد أقفلوا دور المعلمين، وحولوا كلية التربية إلى كلية تؤمن خرّيجين يستقطبهم القطاع الخاص بدل أن يكونوا أساس القطاع التعليمي في القطاع العام".

مجلس الجنوب
ويوضح حشيشو أمراً آخر يتعلق بسياسة بناء المدارس في الجنوب وخصوصاً بعد عام 2000 "لقد بنى مجلس الجنوب عدة مدارس في قرى جنوبية من دون دراسة الجدوى التعليمية منها، وتجاوز في عملية البناء الخريطة التربوية التي يجب أن تتقيد بها وزارة التربية، فقد تم البناء عشوائياً فنرى في إحدى القرى بناءاً كبيراً يتسع لمئات الطلاب يستقطب عدداً قليلاً من الطلاب، ويظهر في ذلك غياب الخريطة المدرسية المناسبة. وهذه الممارسة العشوائية تأتي في مواجهة أي خطة مناسبة. مثلاً: يمكن بناء مدرسة في محور معين تستقطب طلاب عدد من المدارس، مما يسهل على الوزارة تأمين كادر تعليمي قادر وتأمين التجهيزات المختلفة".

التدريب المستمر
ويزيد حشيشو: "استخدمت وزارة التربية أسلوب التدريب المستمر للمعلمين ولكن ما هي الجدوى من ذلك وكيف يمكن أن تنعكس إيجابياً؟، ما نراه اليوم تشتتا في عمل الوزارة وفي المؤسسات نفسها. بسبب غياب خطة شاملة بين المؤسسات المعنية "مركز البحوث، مديرية الإرشاد والتوجيه، التدريب المستمر والتفتيش المركزي" ما نجده هو نقاش بينهم قائم على التنافس وعدم التزام خطة شاملة يقوم من خلالها كل طرف بما يتوجب عليه".
ويسلط حشيشو الضوء على هيكلية الوزارة "فمنذ عشرة سنوات ونحن بانتظار إعادة هيكلة الوزارة ولم يحصل ذلك حتى الآن".
ويلفت حشيشو في نهاية حديثه إلى المشاريع الممولة من الخارج والتي تنفذها وزارة التربية "على أهمية هذه المشاريع فإن جدواها غير كاملة لأنها لا تأتي ضمن خطة تربوية شاملة ومتكاملة، نرى أحياناً مشروعاً يتعلق بالحواسيب وأحياناً تجهيزات محدودة وجزئية وأحياناً تدريب لعدد من المعلمين".

السابق
يحيا العدل !
التالي
لقاء للطلبة الفلسطينيين وممثلي الجامعات 106 مرشحين للحصول على منح مجانية