الحوار: من تسييس المحكمة الى تنفيس الاحتقان

 ستعد اللبنانيون لاستقبال الشهر الفضيل. لعلهم يشعرون بأن المطلوب الصيامُ عن الطعام والصيام عن نابي الكلام. ثمة حاجة جماعية الى استراحة وراحة، فهل ينجحون؟
العصبيات عميقة وغليظة. الاسوأ من العصبيات محرّكوها الداخليون والخارجيون. هؤلاء لهم مصلحة في استمرار التوتر والتوتير.
ثمة واقعتان "خارجيتان" تشيران الى اتجاه ملحوظ نحو التهدئة: الاولى، تراجع حدة الاضطرابات في سورية وإن لم تنتهِ فصولاً بعد. الثانية، إعلان من سفير الرياض في بيروت بأن المصطافين السعوديين بدأوا يتدفقون على لبنان، إلى درجة ان "طيران الشرق الاوسط" ينظم من 8 الى 10 رحلات يومياً لتأمين نقلهم.
ثمة واقعتان داخليتان تشيران الى رغبة المتحاربين في استراحة: الاولى، كلام ايجابي من اعلى قيادات حزب الله يرحب بإحياء طاولة الحوار من دون شروط. الثانية، ردّ من اعلى قيادات قوى 14 آذار ينفي وضع شروط على استئناف الحوار، وإن تمسّك ببحث قضايا معينة في الحوار المنشود.
أشد دعاة الحوار حماسةً الرئيس ميشال سليمان. هو يعتبر نفسه القيّم عليه لكونه رئيس البلاد ورمز الوحدة الوطنية بحكم الدستور، والحَكَم بين السلطات والمؤسسات العامة بحكم التقليد والممارسة. يشاركه الحماسة للحوار والرغبة في تنفيس الاحتقان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. فهو يرى ان الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المأزومة لا تحتمل مزيداً من الإضطراب والصراع والتناحر.
ما اهم القضايا المرشحة للبحث على طاولة الحوار؟
ثمة قضايا عدة ابرزها واكثرها حساسية قضية "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان". إنها "القضية الأم " التي تتفرع عنها قضايا اخرى اصبحت بدورها مهمة بل مركزية وأهمها قضية سلاح المقاومة.
دعاة المحكمة وحماتها من قيادات قوى 14 آذار يعتقدون ان قرار مجلس الامن 1757 الذي أنشأ المحكمة واجبُ الالتزام والاحترام، وان المحكمة مؤهلة لمعرفة الحقيقة وإحقاق العدالة، وان "الدولة" ملزمة بالتعاون معها وتنفيذ اجراءاتها واحكامها.
في المقابل، تؤكد قيادات حزب الله، ويشاركها في موقفها حلفاء كثر، ان الاتفاقية المعقودة بين حكومة فؤاد السنيورة والامم المتحدة سنة 2007 لإقامة المحكمة واجهزتها غير دستورية لكونها لم تقترن آنذاك بموافقة رئيس الجمهورية، ولا بمصادقة مجلس النواب سنداً للمادة 52 من الدستور، ما يجعلها باطلة والمحكمة تالياً غير شرعية. الى ذلك، يشير قادة حزب الله وحلفاؤه الى فضائح الشهود الزور، والمخالفات المدوّية التي رافقت التحقيقات، والمعطيات والأدلة والقرائن التي كشفها السيد حسن نصر الله، ومنها وجود عملاء استخبارات اميركيين وألمان في جهاز التحقيق لدى المحكمة ما يُؤكد انحيازها، وخاصةً بعدما رفض المدعي العام لديها دانيال بلمار اعتبار ضلوع "اسرائيل" في جريمة اغتيال رفيق الحريري فرضيةً تستحق التحقيق. فوق ذلك، يشير قادة حزب الله الى تسريبات صحف ألمانية وفرنسية و"اسرائيلية" لمضمون قرار الاتهام قبل سنتين من صدوره، وتطابق أحكامه مع مضمون تلك التسريبات، الامر الذي يؤكد الشبهات الكثيرة حول تسييس المحكمة لجعلها اداةً لتشويه سمعة حزب الله ودمغه بالإرهاب.
هذان الموقفان المتعارضان من المحكمة هما في اساس الجو المأزوم والمتوتر في لبنان. وقد حاول فريق 14 آذار دعم موقفه السياسي من طاولة الحوار، بالتأكيد على ضرورة ان يكون سلاح المقاومة القضية الرئيسة في الحوار بغية إخضاعه لسلطة "الدولة". في المقابل، رد حزب الله على موقف خصومه بالتأكيد على ان سلاح المقاومة خارج البحث، اذ سبق للرئيس سليمان عند انتخابه ان شدد على ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، وان حكومة فؤاد السنيورة التي اعقبت مؤتمر الدوحة عام 2008 كما غيرها تبنّت الثلاثية نفسها، فلماذا تحاول قوى 14 آذار العودة عن التزامها السابق؟ ومع ذلك، لا يمانع حزب الله في بحث قضية سلاح المقاومة انما في سياق قضية استراتيجيا الدفاع الوطني.
لا جدال في ان موقف قوى 14 آذار من سلاح المقاومة يعوزه المنطق السليم. ذلك ان اطماع "اسرائيل" في لبنان سابقة لنشوء حزب الله. ففي اعتداءاتها وحروبها المتعاقبة على لبنان في الاعوام 1967 و 1978 و 1982، لم يكن حزب الله موجوداً، والحكومات المتعاقبة لم تفعل شيئاً لتسليح الجيش اللبناني وترفيع تدريبه وإعداده، فهل يعقل أن تأتي قوى 14 آذار اليوم لتطالب بسحب سلاح المقاومة، او بإخضاعه للجيش الذي يشكو من نقص فادح في عديده وتسليحه وتجهيزه، كل ذلك مع استمرار احتلال "اسرائيل" لمنطقة شبعا وتلال كفرشوبا، وعدم تنفيذها قرار مجلس الامن 1701 وخروقها اليومية لإقليمه الجوي؟
الحقيقة ان قضية المحكمة كما قضية سلاح المقاومة اصبحتا قضيتين سياسيتين بامتياز وذات أبعاد اقليمية ودولية، ولاسيما بعدما تأزمت قضية فلسطين بامتناع "اسرائيل" عن وقف الاستيطان واستمرار احتلالها للضفة الغربية، ومحاصرتها لغزة، وبدخول الولايات المتحدة (وربما تركيا ايضا) على خط الحراكات الشعبية في سورية لتطويعها وحملها على إنهاء تحالفها مع ايران، ووقف دعمها للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وليس ادل على حساسية البعدين الإقليمي والدولي في قضية سلاح المقاومة، كما في قضية المحكمة الدولية، مما قاله الممثل الخاص للأمم المتحدة في لبنان مايكل وليامز عقب جلسة المشاورات التي عقدها مجلس الامن في شأن تقرير الامين العام للامم المتحدة حول تنفيذ القرار 1701. فقد حذر وليامز من ان الأزمة في سورية "تلقي بثقلها الضخم على لبنان (…) حيث يسود قلق كبير". مردّه الخشية من انفجار نزاع طائفي.
غير ان ثمة بين المراقبين "الخبثاء" من يعطي تفسيراً مغايراً لما قاله وليامز في الامم المتحدة، وما يتردد في الوسط الدبلوماسي الغربي في لبنان عن احتمال شن هجوم "اسرائيلي" على البلاد بذريعة استهداف حزب الله ومخازن صواريخه. تفسير هؤلاء المراقبين يستحضر حديثاً كان قد ادلى به القائد السابق للقوات الدولية "يونيفيل " في الجنوب الجنرال كلاودو غراتسيانو الى صحيفة "النهار"، دعا فيه الى تطوير القرار 1701، من ترتيبٍ لوقف العمليات الحربية بين الطرفين المتحاربين، الى قرار قاطع بوقف اطلاق النار. الى ذلك، ثمة بين المراقبين "الخبثاء" من يعتقد ان الضغوط التي يمارسها الغرب الاطلسي على سورية ولبنان في هذه الآونة من جهة، وموقف قوى 14 آذار السلبي من حكومة ميقاتي ومن استئناف طاولة الحوار من جهة اخرى، إن هي إلاّ تحضيرات لإنضاج تسوية متكاملة على الاسس الآتية:
– احتفاظ المقاومة بسلاحها على ان يكون خاضعاً في استعماله ضد "اسرائيل" الى قيادة الجيش اللبناني الخاضع بدوره إلى سلطة مجلس الوزراء.
– التزام حكومة ميقاتي بالمحكمة الدولية وتنفيذ اجراءاتها واحكامها، وموافقة حزب الله ضمناً على ذلك لكونه ممثلاً بوزيرين فيها.
– موافقة قوى 14 آذار، ومن ورائها دول الغرب الاطلسي، على ان تعلن حكومة ميقاتي في قابل الايام، ان قوى الامن لم تعثر على المتهمين الاربعة الواردة اسماؤهم في قرار الاتهام، فتتوقف اجراءات المحكمة عند هذا الحدّ، او هكذا يقدّرون.
يقدّرون فتضحك الأقدار… 

السابق
المنطقة في حالة مخاض والكل في سباق مع الوقت
التالي
صنع الهوية