المنطقة في حالة مخاض والكل في سباق مع الوقت

 ثوار ليبيا الذين كسبوا معركة «بريقة» ذلك الميناء النفطي الذي قال معمر القذافي إنه مستعد من أجله للتضحية بحياته. والاستيلاء على ميناء «بريقة» أو «مرسى بريقة»، كما التعبير عند الليبيين، يعني أن الثوار أصبحوا على قاب قوسين أو أدنى من طرابلس الغرب، عاصمة البلاد. ومناهم أن يدخلوا هذه العاصمة قبل حلول شهر رمضان، أي في غضون سبعة أيام.
لم لا؟! فالحياة ــ كما يقول الكاتب الفرنسي «هيرفيه بازان»، مثل البحر لا تتعاطى إلا مع الذين يتحركون.
وثوار ليبيا غير تقسيميين، وإلا لأعلنوا جمهورية بنغازي، وانتهى الأمر، مقابل اعلان القذافي جمهورية طرابلس الغرب، وكفى الله المؤمنين شر القتال. لكن أمانة الوحدة الليبية جعلت الثوار يدفعون دماء شهداء مقابل الوصول الى طرابلس الغرب عاصمة البلد الواحد.
وثوار ميدان التحرير في القاهرة حولوا الميدان الى برلمان يصدر القرارات بما هو مقبول وغير مقبول من الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يرئسه المشير محمد حسين طنطاوي، ويؤخرون ولادة الحكومة المعدلة بعشرة وزراء، حتى يتأكدوا من عدم وجود أي أثر في الحكومة لنظام حسني مبارك. بل وبلغ من حدة الرفض عندهم أنهم اصطدموا بالرجل الذي اختاروه هم لرئاسة الوزارة، وهو الدكتور عصام شرف، وقد عزّ ذلك على الرجل فأصيب بارتفاع في الضغط وأدخل المستشفى وهو الآن في فترة راحة وإن كان قد طلب من الوزراء الجدد القيام بمهامهم الى حين حلف اليمين الدستوري أمام المشير محمد حسين طنطاوي.
وثوار ميدان التحرير ثابتون على مواقفهم. هم يريدون حكومة بلا أثر لحسني مبارك، ويريدون محاكمة الرئيس المصري المخلوع علنياً، مثلما تولت عدسات التلفزيون يوم الاثنين الماضي نقل وقائع محاكمة وزير الإعلام السابق أنس الفقي، ويريدون مشاهدة يدي حسني مبارك وهما مغلولتان، جزاء لما حصل في موقعة الجمل بأوامر صادرة منه، وسقط فيها مئات الشهداء. ويريدون كذلك أن يصل الى مجلس الشعب المقبل في مطلع عام 2012 عناصر نظيفة اليد، طاهرة الذيل، بريئة من الشوائب، ومن أجل ذلك رفعوا لافتات مثل «الانسان قبل الأرباح»، و«حرامي الثورة» إشارة الى من يحاول خطفها، وتأكيد نزعتهم الوطنية بلافتة «كلنا بنحب مصر».
وكلهم في سباق مع الوقت، فيصلون الى مبتغاهم، ولا تخسر ثورتهم أية مكاسب..
وثوار تونس حتى الآن لم يرسوا على بر، بدليل أن التظاهرات لم تتوقف، وأن مواطناً تونسياً سقط مع نهاية الأسبوع الماضي. وأين؟ في منطقة «سيدي بوزيد»، منطلق ثورة الشهيد المنتحر محمد بوعزيزي. ورئيس الحكومة الانتقالية «الباجي قائد السبسي» محتار في أمر الثوار، فإذا جاءهم من الغرب، أقبلوا عليه من الشرق، ولا نتيجة في الأفق.

ملف البحر اللبناني عند «بان غي مون»

نحن في لبنان أيضاً نخوض سباقاً مع الوقت..
فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتحسس موقعه جيداً، ويدري بأن لبنان جزء لا يتجزأ من متغيرات المنطقة، ولا يستطيع أن ينفصل عنها، وبخاصة ما يجري في سورية، وهو لذلك، وبالاتفاق على الدوام مع رئيس الجمهورية، يضع نصب عينيه الآتي:
* الحصول تباعاً على دعم من البلدان العربية والأجنبية. وما رسالة التأييد من رئيس وزراء فرنسا «فرانسوا فيون» يوم الاثنين الماضي إلا أول الغيث. وفي الأسبوع المقبل سيقوم بزيارة للمملكة السعودية حيث يؤدي العمرة كعادته، ويلتقي في جدة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ويهنئه سلفاً بحلول شهر رمضان.
ورسالة التأييد الأخرى جاءته من صديقه رئيس حكومة تركيا «رجب طيب أردوغان»، والتواصل اللبناني ــ التركي ضرورة ديبلوماسية واقتصادية.
* الحصول على الغطاء الدولي سواء لبرنامج الحكومة، أم لحق لبنان في ترسيم حدوده البحرية تمهيداً للعثور في الأعماق عن النفط والغاز، وما اعتراف «مايكل وليامس» ممثل أمين عام الأمم المتحدة في لبنان بهذا الحق إلا المؤشر الدولي المطلوب لهذا الملف.
و«وليامس» لا ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى من الأمين العام للأمم المتحدة «بان غي مون» الذي سافر إليه «وليامس» يوم الثلاثاء الماضي ومعه ملف للحدود البحرية اللبنانية مستكمل العدة.
* وفي التعبير عن حظوة لبنان بالغطاء الدولي، توجه الرئيس ميقاتي مع نهاية الأسبوع الماضي الى الناقورة حيث إلتقى قوات «اليونيفيل» وقائدهم الايطالي الجنرال «ألبرتو آسارتا»، وخطب فيهم معتصماً بالقرار الدولي رقم 1701، والخط الأزرق بين لبنان واسرائيل. واعترف قادة «اليونيفيل» بأنها المرة الأولى التي يأتي فيها رئيس مجلس وزراء الى قيادة القوات الدولية في الجنوب.

الاستونيون
ووسطية صائب سلام

ولعله الحظ بعد ذلك، أو قل رضا الوالدين، اللذين أعطيا لبنان وساماً ديبلوماسياً دولياً، بالإفراج عن الاستونيين السبعة، بمسعى فرنسي ــ تركي ــ لبناني، ويجب عدم تغييب لبنان عن صورة هذا السبق الديبلوماسي، لأن هذا الإفراج تم بتعاون مخابراتي فرنسي ــ لبناني، وقد ترك ذلك أثره الكبير في المحافل الأوروبية، وما رسالة التأييد الآتية من رئيس حكومة فرنسا «فرانسوا فيون» الى الرئيس ميقاتي إلا جزء من هذا الأثر.
ويعرف الرئيس ميقاتي تمام المعرفة أن المحكمة الدولية خط أحمر، لا مجال، ولا سلام ولا كلام، بدونها. وهكذا هو الرأي العام الدولي، ولذلك أبدى تمسكه بهذه المحكمة، من حيث المبدأ، أمام مجلس نقابة المحررين. وبذلك يتحاشى صدام الحكومة اللبنانية مع مجلس الأمن الذي هو أعلى سلطة دولية.
ويعيب بعض المعارضين على الرئيس ميقاتي وسطيته، ويسألون: أية وسطية هذه مع نفوذ ظاهر لحزب الله في القرار؟! وكأن قرار حزب الله محصور في الحكومة وحدها، عبر التعيينات الأخيرة، ومنها تعيين العميد عباس ابراهيم مساعد مدير المخابرات العسكرية مديراً عاماً للأمن العام. إن حزب الله جزء من قرار الوطن بحكم ما يمثل من شريحة وطنية ما دام لاحه موجهاً ضد اسرائيل. ولكن الرئيس ميقاتي يتعامل مع هذه الحقيقة بوسطية ذكية لا يرقى إليها شك.
ونجيب ميقاتي ليس أول رئيس حكومة وسطي في لبنان. فقبله كان الرئيس الراحل صائب سلام. وإلا ما معنى شعار «لبنان واحد لا لبنانان»، و«اتركوا أبناء لبنان يتلاقون عند الحواجز فسيخنق بعضهم بعضاً من شدة العناق». والرئيس سليم الحص هو أيضاً من المدرسة الوسطية، بل كان يزن الأمور بميزان الفرمشاني، ميزان والده الصيدلي أحمد الحص.
إلا أن أمام الرئيس نجيب ميقاتي واقعاً لا يمكن تجاهله، هو واقع المنطقة التي تغلي بالأحداث. ويجب أن يكون لكل شيء حسابه في هذه المرحلة، ولا يمكن فصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية التي ينبغي أن تتحصن بأكبر قدر من الزخم والحركة، أمام متغيرات المنطقة. ومن محاسن الصدف أن يكون في منصب وزير الخارجية سفير سابق محصّن بالخبرة، وسعة الرؤية، مثل عدنان منصور، وأنه في مستوى الأمانة المعلقة عليه من أجل التخاطب مع دول العالم، ولاسيما الدول العربية، وهذا يتطلب أولاً ملء الشواغر في سفارات لبنان، لأن وجود السفير على رأس السفارة لا يملؤه قائم بالأعمال، أو مستشار أول.
فهناك دولة سودانية جديدة على رأسها مسيحي مثل لبنان هو «سيلفا كير». وهناك مجلس وطني للمعارضة في ليبيا، وملف الإمام المغيّب موسى الصدر الذي لا تغيب أسراره عن رئيس هذا المجلس وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل. وهناك مجلس وطني للمعارضة جديد في اليمن، ونظام متراجع برئاسة علي عبد الله صالح. وهناك جبهة الإنقاذ للمعارضة السورية التي انبثقت في اسطمبول. كما هناك الدور التركي المشرئب كالسهم الناري في المنطقة..
والسؤال بعد ذلك كله: ماذا يريد لبنان؟! بل أين موقع لبنان في هذا النظام الاقليمي الجديد؟!
إنه التحدي الذي تواجهه حكومة نجيب ميقاتي في سبيل أن يسلم لبنان من حرائق المنطقة ودخانها.. والمشوار ليس بعيداً عن… الأشواك! 

السابق
هل تشمل حماية الشهود مرتكبي جرائم؟
التالي
الحوار: من تسييس المحكمة الى تنفيس الاحتقان