صنع الهوية

 قد توصلنا في المقال السابق بأن مجتمعنا في حاجة إلى هوية جامعة وشبهناها “بالروح” التي تستوعب كل أطرافه وتميزه عن غيره من المجتمعات وتدفعه وتحفزه للنهوض. وتحقيق هكذا هوية يحتاج إلى عمل المفكرين على فرز السمات الرئيسية التي تشترك فيها كل مكونات مجتمعنا وفي ذات الوقت تميزنا “بمجموعها” عن غيرنا من المجتمعات،

ومن ذلك الدين واللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا، والعمل بعد ذلك على إبرازها وتعزيزها بالشكل الذي لا يهدد حقوق أو خصوصيات أي مكون من مكونات المجتمع طالما أنها لا تؤذي المجتمع. وبالنظر إلى هذه المشتركات التي بين أطراف مجتمعنا يتبين لنا كبر حجمها، وهذا يسهل من صنع هوية جامعة لأي مجتمع، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لبناء الهوية الجامعة المنشودة لمجتمعنا،

ولو أخذنا على سبيل المثال المجتمع الأميركي لوجدنا أنه لا يمتلك النزر اليسير مما يملكه مجتمعنا من مشتركات، فهناك العشرات من الأديان، وعرقيات متعددة، وتاريخ قصير وتراث شحيح، ولغات مختلفة، بل العجب أنه ليس لها حتى لغة رسمية للدولة،

ومع ذلك تعتبر ذات تمسك شديد بهويتها على حسب مقياس “نيتد”، وأمكنهم صنع هويتهم التي تجمعهم وتميزهم عن غيرهم مع كونها مصدر اعتزاز وتحفيز لهم لخدمة مجتمعهم. إذاً يبرز هنا تساؤل كيف الطريق إلى صناعة هوية جامعة؟سنجد أن هناك عدة مسارات عامة لتشكيل الهوية أو تعزيزها في أي مجتمع، لكل مجتمع ظروفه التي تفرز اختياراته،

ومنها أن يكون ذلك عبر الدولة، أي بإرادة سياسية لتعزيز هوية جامعة لأبناء الوطن يحميها الدستور وتعززها برامج التنشئة الاجتماعية, وهذا المسار لا يؤتي أكله إلا عندما تكون الدولة ممثلة للمجتمع عندها تكون تلك الهوية هي إرادة الشعب وليس فقط إرادة سياسية، لأن فرض الهوية يهدد بالضرورة خصوصيات وحقوق بعض أطراف المجتمع وذلك يحملهم إلى النزوع إلى دوائرهم الخاصة أو البحث عن انتماءات أخرى ربما تفت في عضد المجتمع.

ولو أخذنا أمريكا على سبيل المثال في هذا المسار، لوجدنا أنها تملك دستوراً يحمي هذه الهوية ومجموعة برامج التنشئة الاجتماعية التي تساهم لتعزيز الهوية ومن ذلك، البرامج الدراسية، والعدد الهائل من المتاحف التي تحتوي وتهتم بالتراث الأميركي على قلته، كما أنك ستتعجب حينما تجد أن هناك اثني عشر يوماً في السنة للاحتفال بمناسبات مختلفة تسهم جميعها في تعزيز الهوية، بالإضافة إلى الاعتناء الفريد برموزهم.وأما المسار الثاني فيكون عبر المجتمع،

أي برغبة وإرادة مجتمعية ذاتية لاستكشاف الرابط والمشترك بين أبناء الوطن أي من دون ضغوط خارجية وداخلية, وإنما عبر مبادرات من بعض رموز أو تيارات المجتمع، وأغلب ما يكون ذلك في الأوطان المتخلفة والتي قد تعمقت فيها العنصرية سواء كانت طائفية أو عرقية أو مناطقية أو غيرها، فتبدأ صرخات المفكرين حول الوضع القائم بصفة عامة وبصفة خاصة حول بلورة هوية ذلك المجتمع كأول سؤال من أسئلة النهوض، تحتاج فكرة “الهوية الجامعة” بعداً زمنياً حتى يلتقطها بعض المهتمين بالإصلاح ممن لديهم القدرة القيادية التي تمكنهم من إقناع وتحريك الناس،

ثم تغدو في طورها الثالث “روحاً” لتيار يبدأ في التضخم ويكون قادراً بنهاية المطاف على ردم الهوة بينه وبين السلطة كأداة تنفيذية لا غنى عنها لتعزيز الهوية الجامعة وحمايتها. وحزب العدالة والتنمية التركي مثال رائع في ذلك، حيث ساهم في احتواء فسيفساء المجتمع التركي بتنوعه الأيديولوجي والعرقي.وقد يكون عبر خوف من تربص عدو خارجي أو الانشقاق الداخلي، أو اختلاق مثل هذه المخاوف وصنعها أو تضخيمها من أجل إبراز أهمية الهوية الواحدة والمصير المشترك لكل أطراف المجتمع،

ويتعاطى مع هذا المسار كل من الدولة والمجتمع، ويعطي نتائج جيدة على المدى القصير لكنه يفشل على المدى البعيد إذا لم يصحبه عمل على إحدى المسارين الآخرين، فلو أخذنا اليمن على سبيل المثال لوجدنا أن التهديد بالانشقاق الداخلي أو الإرهاب لم ينجح طويلاً في جمع المجتمع حول هوية جامعة لهم لأن ذلك لم يصحبه أي عمل على أحد المسارين الأخريين سواءً على مستوى النظام أو على المستوى الشعبي.

لكن لو أخذنا أمريكا على سبيل المثال، لوجدنا أنها تجيد استثمار أو حتى اختلاق التهديد الخارجي لأجل تعزيز الهوية الأمريكية، من الحروب العالمية وفيتنام والحرب الباردة حتى أخيراً الحرب على الإرهاب،

حتى لقد قال المفكر الأمريكي صامويل هنتجتون “لقد استطاع بن لادن أن يوضح الهوية الأمريكية”، فوضوح وتمسك المجتمع الأمريكي بهويته ليس فقط نتيجة لما ذكرنا سابقاً من عوامل التنشئة الاجتماعية وحماية القانون لكل طرف من أطرافه،

لأن ذلك برأيي لا يكفي لنقطة الضعف التي تؤرقهم وهي العلاقة القصيرة بالتاريخ وشح تراثهم، ولكن العمل على كليهما مازال يقوم بفاعليته.هذه بنظري أهم مسارات العمل على صنع هوية جامعة لأي مجتمع ولكل مجتمع ظروفه الخاصة التي تحدد اختياراته 

السابق
الحوار: من تسييس المحكمة الى تنفيس الاحتقان
التالي
رائحة الحرب تفوح في سماء لبنان