نعمة شرارة..تركت عالمها الصحافي، لتعود الى التراث بحثاً عن الحرية

يتعانق الحزن مع الحرية في حضرة نعمة شرارة،المرأة التي رمت بعالمها الثقافي،الصحافي والتعليمي جانباً، بل بعيداً عنـها، وصعدت قطار العودة الى زمن الجدود، لتعيش في عصر مختلف كلياً، أبعد من حدود المكان، لتبحث عن نعمة دون قيود، وعن شرارة الدفء والحنان، فأوجدت لنفسها إتصالا آخر، هو اتصال الفكر بالخيال، فانزوت في عالم أدواته التقليد التراثي "والتفكير ومعه الأرض التي "اتصل بها كل يوم "فهي تسمع معاناتي وتشبهني في بحثها عن حريتها"، تقول نعمة شرارة إبنة الـ52 عـاماً، التـي تعيش وحيدة منذ ما يقارب الـ32 عـاماً، في عالم الحرية المطلقة كما تصف واقعها.

في بلدة قعقعية الجسر (قضاء النبطية) وفي منزل يكاد يخلو من كلِ شيء إلا من حضورها و"أطشات" الغسيل المتبعثرة في غرفها وبعض من أباريق الشاي، التي أكل الحطب منها ما طاب له، وهي أيضاً مبعثرة لا حيل لها، على الإلتزم في مكانها، تعيش شرارة، حياة التقليد القديم – زمن الجدود، امرأة الحجارة والحطب وما بينها أديبة وكاتبة ومثقفة، "ورغم أن المسافة بعيدة بين الإثنين إلا أن للحرية ثمناً" تقول "نعمة" خلال استرسالها في إنجاز "الغسيل المتراكم داخل "الجاطات المتبعثرة في منزلها.

تمضي "نعمة" وقتها الطويل بين الحقل، الغسيل، وإعداد الأكل التراثي القديم، من الهندباء الى العصورة والبقلة، "التي أجمعها من الحقل، ثم أطهوها على الحطب"، وبين مطالعتها كتب شكسبير وفولتير وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي "كما لو كانت تقيم حلقة إتصال جديدة، ما بين عالمين بعيدين عن بعضهما بعضاً، بعد السماء عن الأرض، فهي ترى أن عالم التفكير والأفعال "هو الحقل والطبخ على الحطب"، والعودة الى التراث هو "إبداع بحد ذاته، مثل أي إبداع كالنحاتين الرسامين، فالتراث بنظرها"يوَلد شعاعاً خفيفاً من الأمل"، فهو مثلث الرضى بقناعة الإنسان، "فحين أشعل الحطب تحت موقدي وانطلق في الغسيل، أشعر باللذة بما أقوم به، فهناك أشياء لا تمكننا ظـروفنا من تحقيقها بالأفعـال، ولكننا نصل إليها عبر الاتصال الفكري الذي حققت عبره أحلاماً كثيرة عجزت عنها في الواقع.

يدفعك كلامها التفلسفي، ذات النفحة الثقافية الخالصة إلى "النبش" في عمقها عن جذور تلك المرأة التي تخلت عن عالمها الكتابي وأغواها الحنين إلى جذور والدتها، أي "إلى الحنين والدفء"، "حجزني والدي في مأوى في صبرا، حين كنت في الـ18"، ما دفعني إلى الابتعاد عن عالمي والارتماء في عالم آخر، لا يمت إليّ بصلة، "عالم خال من كل شيء، إلا من بعض فضلات الحياة التقليدية التي تخلّى عنها المواطن، وتمسكت بها "نعمة" "لأنه لا يقيدني" على حد تعبيرها.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل فعلاً ما تقوم به "نعمة" حرية، هل العودة إلى التقليدي التراثي، نبراس الأمل، "حين تعيش السجن، فإنك تبحث عن الحرية" تقول نعمة قاطعة حبل الأسئلة، لتعلق غسيلها على حبال نشرتها في الحقل، فيما تسرع لتسامر النباتات العطرية أحياناً، والوردية تارة أخرى والمنتشرة في كل زوايا المنزل الذي يتآكله الصمت، وتغزوه سكينة الشوق، وتخترقه قراءات نعمة لكتابات جبران خليل جبران، قبل أن تقول"غالباً ما أتحدث مع نباتاتي بلغة الذات، فهم مثل الأديب الباحث عن قصة يكتبها، وأنا كذلك أكتب يومياتي التي أحتفظ بها، لأنني لا أجد من يلتفت إلى نعمة كنعمة والتي غزا الشيب هامتها، وطوى النسيان صفحاتها"، تقول وهي تكمل غسيل ملابسها، كما لو كانت رمت زمناً بكامله في موقد النار.

درست نعمة الإعلام وعلم النفس وعشقت المطالعة، إلى حد النهم، ودفعتها معاناتها مع زوجة أبيها إلى ترك بيروت والعودة إلى الضيعة. كان ذلك في العام 1980 حيث التحقت في عالم التدريس في قاقعية الجسر، فدرّست اللغة الفرنسية مدة خمس سنوات، سرعان ما، "تخليت عن عالمي الصحافي الذي أهوى، وعن علم النفس الذي أحب، وعن التعليم الذي أعشق لأنني شعرت بقيود مورست عليَ، فأنا الباحثة دوماً وأبداً عن الحرية"، لتخـتار بدائية الحياة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لقد وقعت "نعمة" في شرك البحث عن الحرية التي أبعدتها عن كل شيء إلا عن كتبها وتراثها، "حين لا تجد باباً تطرقه، ونتتفي إمكانية العثور على شيء، يؤمن لك حريتك دون قيود، يكون ما أخترته هو الحرية "هكذا تبرر "نعمة" التي ترمي بكلماتها على الحطب الذي تجمعه من الحقل، قبل أن تجلس على كرسي متثاقل كما تتثاقل تعابيرها، تراقب الحياة خارجاً، عبر شرفتها، تتلمس منها ما تريد، قبـل أن تلتحف في غطاء قلمها لتدخل عالم التعبير، "الذي يخرجني إلى حريتي المنشودة".

بين كل ورقة من كتبها، مُذكـرة تدونها، تحكي حنيناً وشوقاً تجمعها في الذاكرة، تكتب عن الكفاح، عن الحرية، تختار ما يمت إلى شخصها، مذكراتها بلا عنوان كما حياتها، "إذ كبلتني الصدمات، فأثقلت حياتي وتركتها بلا عنوان"، وهي تؤكد أن "الإنفصال عن الكتابة مؤلم، لأن التعبيـر نوع من الشكوى".

علامات الشوق تخرج من بين عيونها، فيما تسقط تعابير الحزن على كلماتها، التي تروي مآثر الوحـدة "الوحدة قاسية جداً، صعب على الإنسان أن يعيش داخل ظلمة الليل، ولكنني اعتدت عليه "نشأت بيني وبين ظلمة الليل والكتابة حكاية"، فهما بالنسبة لها جدار الحرية، "فظلمة الليل الحالكة تشبهني، أهوى الجلوس داخل كنفها، لأسترسل في حياتي، أدون فيها ما طاب لي، بعيداً عن تقوسات يومي الطويل"، ترمي بكلماتها المفعمعة بالشوق لأخيها، على كتاب إيليا أبو ماضي، تقرأ منه ما يتناسب وشخصيتها وواقعها، ثم تردف قائلة: "معولي ومنكوشي لا يشبهان معول أي فلاح، فالفلاح هو الفيلسوف الحقيقي، وهو الذي يذيب الشوق للأحبة"، كأنها بهذا الكلام تبرر وجودها في عالمها الغريب، الذي يعطيني الدفء" إذ حين يتملكني الشوق لأخي الذي أجهل طريق الوصول إليه، أهرع إلى موقدي أشعله لأتشظى بناره فهو يعوض عليّ الحنين والشوق للأحبة، هذه قناعاتي لن أتخلى عنها وإن رفضها كثر.

السابق
كويكب يُهدِّد عشر دول بالدمار
التالي
صور تستضيف رحلة العلم اللبناني