مـاذا بعـد “لقـاء الثعـلبـيـن” في عيـن التـيـنـة؟

في عين التينة ضيف استثنائي لا تألف اسمه لائحة زوار مقر الرئاسة الثانية. هو اللواء جميل السيّد. لقاء وديّ مع نبيه بري ينتهي بتصريح سياسي مقتضب للمدير العام السابق للأمن العام. الخصمان اللدودان في كادر واحد للمرة الأولى بعد خروج «الجنرال» من زنزانة الاعتقال السياسي. مشهد فتح الباب على جملة تساؤلات ليس أقلها هوية الوسيط الذي نجح في مهمة جمع من باعدت بينهما، ولسنوات طويلة، حواجز السياسة ومسافات الموقع والدور والنفوذ. تساؤل آخر يطرح نفسه: هل بدأ جميل السيّد برسم خارطة طريقه نحو البرلمان في العام 2013؟

لا «حزب الله» ولا سوريا كانت لهما بصمات على لقاء عين التينة. هي الصدفة جمعتهما في مناسبة اجتماعية مشتركة، تخللتها مصافحة وإشارات إيجابية دفعت السيّد الى طلب موعد لرؤية «دولة الرئيس». عوَض نبيه بري غيابه عن مواكبة خروج اللواء من سجن رومية، بإيفاد غازي زعيتر وعلي بزي إلى استقبالات التهنئة في الكورال بيتش، ومن ثم باتصال هاتفي من السيدة رندة بري، أعقبه اتصال من السيّد بالرئيس بري لشكره.

على عكس مواقف العديد من قوى المعارضة السابقة امتنع بري، خصوصاً في الفترة الأولى للاعتقال، عن استقبال وفد عائلات الضباط الأربعة وزوجاتهم، مع العلم أن سوسن السيّد لم تشارك بأي جولة للوفد على المراجع الروحية والسياسية. في تلك الفترة، وفي إحدى زيارات بري الى قطر اقامت السفارة اللبنانية في الدوحة حفل عشاء رسميا على شرف الضيف كان من بين المدعوين اليه سامر السيّد نجل اللواء المعتقل. يطلب بري من السفير اللبناني ان يدعو الشاب سامر للجلوس الى طاولته. لقاء فَتَح صفحات من كتاب الاعتقال السياسي والمؤامرة التي حيكت ضد الداخل اللبناني، مرّر من خلاله «ابو مصطفى» اشارات ودية باتجاه «أبو مالك».

وبعد أن أخذ المدير العام السابق للامن العام على عاتقه ملاحقة شهود الزور في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حاول «الاستاذ» أن يكون على مسافة من ملف هؤلاء الشهود والصراع المفتوح بين السيد ومدعي عام المحكمة الدولية دانيال بيلمار، وان كان بري قد تبنّى سياسياً ملف شهود الزور في مواجهة حكومة سعد الحريري.

هي الصدفة لعبت دورها منذ اسابيع قليلة في تحريك المياه الراكدة. يلتقي الرجلان خلال واجب عزاء بوالد العميد المتقاعد ماهر الطفيلي والعقيد غسان الطفيلي. يدخل بري ويقدّم التعازي لعائلة الفقيد حيث كان السيّد يجلس بين صفوفها. سلام وقبلات وممازحة متبادلة مهّدت لاحقاً لجلسة عين التينة. قبل «صدفة العزاء» راقب رئيس مجلس النواب عن بعد وبلا حماسة الإحاطة الاستثنائية التي أمّنها «حزب الله» للواء السيّد الآتي من باريس، من مطار رفيق الحريري الى منزله في الجناح، في ظل الاستدعاء القضائي بحقه بتهمة «تهديد» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في الخريف المنصرم.

من يعرف نبيه بري وجميل السيّد عن قرب يدرك أن عمق الخلاف بينهما يعود الى تراكمات يغلب عليها الطابع السياسي لا الشخصي. بدايات العلاقة في منتصف الثمانينيات طبعت بالإيجابية خلال فترة تولي السيّد لرئاسة فرع المخابرات في البقاع ومن ثم تعيينه مساعداً لمدير المخابرات مركزياً. يومها كان بري وزيرا للعدل في حكومة الانقاذ الوطني في عهد أمين الجميل. التنوع الطائفي والطابع الاستقلالي، برعاية سورية مباشرة، للواء الاول في الجيش في البقاع، والذي لم يسر على بقية الألوية، حكمته ظروف الجغرافيا والسياسة. واقع اوجد قناعات استراتيجية مشتركة بين الرجلين تجاه سوريا والمقاومة.

وبين التمايز والقناعات المشتركة حبكت خيوط الصداقة والانسجام مع بري، لكن تعيين السيّد مديراً عاماً للأمن العام مع انتخاب العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية شكّل حداً فاصلاً بين مرحلتين. كان بري، ومنذ العام 1994، من المؤيدين لوصول قائد الجيش الى قصر بعبدا وعدم التمديد للياس الهراوي.

حذر اميل لحود من الثنائي رفيق الحريري- الياس الهراوي، كان مردّه الى محاولة الرجلين مصحوبين بنصائح من جوني عبده بوضع اليد على الجيش، كما يقول ضبّاط مقربون من السيّد. واقع اوجد حلفاً موضوعياً بين الجيش والمخابرات من جهة وبين بري والقيادات الأخرى المعارضة للحريري. «كيمياء» الضرورة والامر الواقع وقفت لاحقا عند عتبة «المديرية»، حيث بدأت تطفو الى الواجهة التباينات في كل شاردة وواردة الحكم بين «الفريق اللحودي» وفريق حلفاء الحريري، في ظل احتكار آل المر لكل مفاصل الدولة. ومع انصراف اللواء السيّد الى ترتيب اوضاع المديرية وادخالها، كما ردّد دائماً عصر المؤسساتية وفرض القانون، و«حياكته» المتقنة، من جهة أخرى، لقطب الحكم على اختلافها، ابقى في يده ملف علاقة لحود مع السوريين، ولعب دور ضابط الارتباط بين الدولة والمقاومة وقوات الطوارئ في الجنوب وترأس اللجنة العسكرية اللبنانية في مفاوضات الانسحاب الاسرائيلي عام 2000. دخل السوري مرة واحدة على الخط، من خلال غازي كنعان، فجمع الخصمين على طاولة الغداء عند بري عام 2002، لكن عوامل التباعد كانت أقوى من أن تلجمها لمسات دمشق.

هو صراع المصالح والنفوذ الذي يقود اليوم مناصري بري الى الاعتراف «لقد أرسى جميل السيّد طوال تحكّمه بمفاصل الحكم شبكة من العداوات والحقد أكثر مما اشتغل سياسة». يتحدثون بلغة تصحيحية عن «خطأ شائع» يقع فيه البعض «قانون غازي كنعان» هو «قانون جميل السيّد».. و«نقطة على السطر».

هكذا لم تنفع القواسم الاستراتيجية المشتركة بين السيّد وبري في إخفاء «ورم» التباينات في كل ما يتعلق بالشأن الحكومي والإدارات والتعيينات والانتخابات…. أساساً أتى تعيين السيّد في مختلف المناصب التي تولاها من خارج السياق «التقليدي» لوصول الضباط الى المؤسسة العسكرية اي من خارج عباءة زعماء الطوائف. وتحديداً عيّن السيّد مساعداً لمدير المخابرات ميشال رحباني ثم مديراً للامن العام خلافاً للعرف بتولي ماروني هذا المنصب برغبة مباشرة من لحود، وليس من بري.

وبمقدار ما كان حبل الخلافات مشدودا أو رخوا، كان الاحتمال «الافتراضي» لوصول جميل السيّد يوما ما الى رئاسة مجلس النواب عنواناً متأهباً لإبقاء نار التوتر مشتعلة، ومادة دسمة يستخدمها اخصام الرجلين لتسعير تلك النار من حين الى آخر، وخير دليل على ذلك، طريقة تصرف بري ازاء الانتقادات التي وجهت اليه في أعقاب الانتخابات البلدية والاختيارية في العام 2004، واتهامه جميل السيد بأنه يتولى «تنظيم» الحملات الاعلامية ضده في وسائل الاعلام.

المقربون من الرجلين، الذين يشيرون بالاصبع الى مرحلة الجفاء التام على خط عين التينة – الجناح خصوصاً بين العامين 2002 و2005 وأحد أهم عناوينها ما نتج عن اعتراض وزراء الرئيس بري على تطويع ضباط في الامن العام قابله اللواء السيّد بتصريح ناري علني، يقولون إن ذلك ابقى الخلاف مبدئياً ضمن اطاره السياسي، من دون اسقاط حساسية العامل الشخصي بحكم الانتماء للحاضنة الطائفية نفسها.

وبمعزل عما يقال في الغرف المغلقة، لم يسمع عن لسان بري تصاريح منتقدة للسيّد، باستثناء بعض نوابه، والعكس صحيح. من جهته، لم يبد الضابط المستقيل من المديرية حماساً للترشح للانتخابات في العام 2005 ولا في العام 2009 من داخل زنزانة سجن رومية، مع ان الشروط القانونية كانت متوافرة آنذاك كما عامل التعاطف الشعبي، برأي مقربين من السيّد. أسرار وخفايا دخول الضابط القوي الى عمق اللعبة السياسية من بوابة المؤسسة العسكرية قد تكشف قريباً في «مذكرات اللواء».

«لقاء الثعلبين» المعروفين بدهائهما السياسي، اللذين يختزنان كماً كبيراً من «خفّة الدم» المعروفة لدى بري و«المستترة» لدى السيّد، كان بحاجة لظرف استثنائي كي يرى النور بعد مسيرة طويلة من الصراع الصامت والعلني، فما هو المحفّز في مرحلة «حكومة الأكثرية» الذي قد يعيد المياه الى مجاريها بين «الاستاذ» و«اللواء»… او قد يعيد عقارب الساعة الى الوراء تحت سقف بدء العدّ العكسي لانتخابات 2013؟ وهل يكون طموح مدير عام شيعي أقل من نائب أو وزير أو رئيس مجلس نيابي؟

السابق
عندما تُستباح الشرعيات···
التالي
المحكمة الدوليّة: الحرب القادمة… قادمة!