ذكريات كفررمّان مع مواقع الاحتلال

تحرير لبنان

حين تفوح رائحة التحرير من ثنايا كفررمّان، لتلمس منها أريج النصر، فاعلم أنك عند بوابة الذاكرة التي تحملك إلى أيام الاحتلال، عميقا، ثمّ تعيدك إلى زمن التحرير، وبين الاثنين قصص وروايات ترصدها ذاكرة أبناء البلدة.

تقف آسيا قانصو عند شرفة منزلها، تتأمّل موقع الطهرة، والدبشة والسويداء، قبل أن ترفع الغطاء عن ذاكرتها. يدفعها الحنين إلى الكلام الذي يتساقط من صميم روحها بغصّة: “مررنا بأيام عصيبة جدا، نجونا أكثر من مرّة من الموت، فذات يوم بدأ القصف من أحد المواقع وأصيب المنزل وذاب حديد سيارة أخي ونجونا بأعجوبة”.

تواصل آسيا سرد حكاياتها المشبعة برائحة بلدتها الجنوبية المقاومة، على غرار أخواتها من القرى والبلدات على طول مساحة الجنوب: “كانت الحياة بطبيعيتها تؤنسها الطيبة والألفة، ورغم القصف كنا نخبز ونجتمع ونتحلق حول الخبز لساعات، فنحن لم نترك كفررمان، وكنا نزرع الملوخية والخضر تحت القصف لأننا نحب الحياة”.

في ذكرى التحرير الحادية عشرة، تقف كفررمّان وقفة تأملية مع ذاكرتها، فتدمج الصورة القديمة مع الجديدة بألوان التحرير.

يسرد المواطن قصته مع موقع تعرّى من خجله. فاسم كفررمّان ارتبط بالتحرير ارتباطاً وثيقاً. هي التي قدمت العديد من الشهداء والجرحى وحصدت التحرير والحرية.

“أحد عشر عاماً مر على التحرير، كما لو كنت أرى هذا المشهد اليوم”، يقول علي ضاهر، الذي كان مربياً وناظراً في المدرسة الرسمية التي نالت نصيبها من الاحتلال وتعرّضت للتدمير عام 1978: “لكنّنا لم نرضخ للعدوّ، بل شكّلنا لجنة شعبية من عشرة أعضاء، وجمعنا التبرعات وأعدنا بناء المدرسة، وأكملنا مشوار التعليم داخل البلدة، برغم القصف الذي كان يحاول إعاقة مسيرة مقاومة التعليم”.

وللتحرير نكهته المميّزة في بال الحاجة إلهام التي لم تفارق ثغرها أغاني تمجيد المقاومة والتغزّل بها. تقف عند ساحة العين في البلدة، ترشف جرعة مياه، وتطلق عبارة “إيييييه” طويلة، لتنفّس خواطر وذكريات مؤلمة ومفرحة: “بطلع على الجبل، بنزل بوادي، للمقاومة حملنا الزوادي.. ارض الميذنة يا أرض بلادي..بعدّنا عنك جيش الصهيوني”، لا تتوقّف عن الغناء وتعقّب: “طْلعت على الطهرة ..حملت البارودي.. حتالي حارب جيش اليهودي.. أرض الميدنة يا أرض جدودي…رحّلنا عنك جيش الصهيوني”.

تشبّه الحاجة إلهام أيام الاحتلال الغابرة “بالسجن الكبير حيث كنا نعيش في سجن، وكان هبوط الليل مرعباً، ولكنّه أحياناً، كان فسحة للإنطلاق في أيّام الحصار”.

تتدافع الصور الحيّة في ذاكرة الحاجة أم حسن بعدما حفرت عميقاً في سنوات عمرها، وهي التي لم تنس كيف أنّ دبابات العدوّ “هاجمت أحد أحياء البلدة في حي السيَار، وذبحت ثلاثة من أبنائي، فقد كنت أحرث أرضي وأزرع الفريز، والخضر، قبل أن تأتي الدبابات. كانت حفيدتي معي، ولا أخفيك أنّ الخوف انتابني في ذلك اليوم وبقينا أكثر من 11 ساعة محاصرين في منزل الحاج نعيم ضاهر، الى أن تراجع الأوغاد، بعدما ذبحوا أربعة. كان الرعب يفيض منا، ولا يمكن لنا ان ننسى هذا التاريخ”.

في محله بحيّ السيّار يتذكر أبو حسن هدير الطائرات الحربية شبه اليومي، فارشاً خيوط ذكرياته التي حملته الى العام 1992، عندما أطلق العدو العنان لمكبرات صوته، من موقع الطهرة داعياً أهل كفررمّان إلى إخلاء البلدة في مهلة ساعة: “حملت عائلتي وغادرت البلدة، وأمضينا ليلتنا على الطريق، في يوم ممطر وعاصف”.

غير أنّ الصورة تتبدّل تلقائياً في محلّ الحلاقة الأوّل في البلدة عند المختار علي نعيم ضاهر الذي يقول إنه لم يغلق محله ولو ليوم واحد فقط، بل على العكس “كنت أمارس الحلاقة حتى تحت القصف، وأصارع طلقات النار، ولم أغادر بلدتي، فأعمل في الأرض والحلاقة، وكنت مؤذّناً في الجامع، وحوصرت أياماً كثيرة داخل المسجد، وذات يوم كنت أسجد، وتعرّض المسجد للقصف، والله نجّاني، ولكنّنا اليوم ننظر إلى تلك الأيّام، بعين المتذكّر،على أمل أن لا نعيشها من جديد”.

يسعى يوسف إلى تدوين مذكرات كفررمّان مع مواقع الاحتلال في كتاب يوثّق قصصها وحكاياتها الموجعة والمؤنسة ومنها على سبيل المثال المجزرة الذي ذهب ضحيتها أربعة من أبناء البلدة: “فقد كانت الساعة تشير الى السادسة صباحاً، عندما دوّت قذيفة، وتبعتها رشقات من الرصاص ووابل من القذائف”.

التحرير هو وجع إذا، وليس فرحة فقط، وهو شهداء وذكريات مؤلمة، مع وجع الاحتلال الذي حوّل البلدة مسرحاً لرشقاته، من تلال الطهرة، السويداء، الدبشة وعلي الطاهر،.

وبدلا من الأهازيج إحتفلت كفررمّانهذا العام “رياضيا” بالتحرير، من خلال الماراتون الرياضي للشباب الذي ترعاه البلدية كتعبير جديد ومختلف عن الفرح.

السابق
شبك الذراعين لتخفيف الألم
التالي
مناشير في ميس الجبل تشير الى أسماء الذين اعتدوا على مشاعات البلدة