ضرب “الفتنة” أم تصديرها إلى لبنان؟

من شأن الذين ينتظرون ولادة الحكومة الجديدة ألا يتوقعوا من سوريا أن تعامل اللبنانيين بأفضل ما تعامل به السوريين. ولعل ما شهدته سوريا في الأسابيع الأخيرة ينبئ بمرحلة لبنانية مقبلة أكثر صعوبة وتعقيداً مما كان متصوراً. فالحكم الذي أبدى هناك أن التصالح مع الشعب ليس في اولوياته، لن يبدي هنا – من خلال الحكومة العتيدة – أي استعداد للقبول بلعبة الموالاة والمعارضة، خصوصاً إذا تركز الصراع والنقاش على مسألة السلاح غير الشرعي.
الأرجح أن لبنان – الساحة سيستوظف، كالعادة، لاستقبال المشاكل المصدّرة عبر الحدود. وقد نسب الى رئيس الجمهورية "ارتياح" الى مسار الوضع في سوريا، وقوله ان الاستقرار فيها ينعكس إيجاباً على البلدين. لكن "ارتياح" الى ماذا تحديداً، الى خطاب الرئيس السوري أم الى وعود الاصلاح أم الى غلبة الحلّ الأمني؟ أما الرئيس المكلّف فاتصل للتنويه أو للتهنئة بتفويت الفرصة على "مشاريع الفتنة"، لكن أي "فتنة"؟ لم يتكفل أحد بشرح او توضيح كيف أن تظاهرات سلمية عزلاء تطالب بالحرية والكرامة
أصبحت فتنة، بل قيل أيضاً "فتنة طائفية" استناداً الى حادث معزول في اللاذقية.

المشكلة الوحيدة التي يعانيها نظام دمشق تتلخص في ان جماعات من الشعب تجرأت على التظاهر، وهذا في حدّ ذاته تحد غير مقبول. لم تكن هناك فتنة، ولم يكن النظام مهدداً ولا محرجاً ولا مرتبكاً، كان يعرف ان هذه التظاهرات لا تستحق البطش لكن اظهار التسامح مناقض لطبيعته، لذلك حرص على انذار الأكثرية الصامتة، وربما المتأهبة، بأنه لم يقلع عن نهجه الدموي المعروف.

عملياً، لم يتغير شيء بالنسبة الى النظام، فهو يقوم أساساً على قوته الامنية، وهو رقم صعب في الداخل، وكذلك في الخارج حيث لا تزال الولايات المتحدة واسرائيل تفضلانه على أي بديل له، قد يكون اسلامياً كما تعتقدان. ثم ان قناة "الجزيرة" قررت، استطراداً واستثناء، عدم خوض معركة التغيير في سوريا، إذا كان لها أو لأي فضائية أخرى – وليس للشعب – دور حيوي في اسقاط أي نظام.

لكن الأمر هنا لا يتعلق بأميركا ولا باسرائيل، وإنما بالنظام الذي لا يستطيع انكار الرسائل التي اطلقها الشارع اليه. لم يكن أحد ليعتقد ان هذا النظام لا شعبية له، فلديه الحزب الأوحد، وهو رب العمل الأول ومصدر الرزق لارباب العمل جميعاً، ولم يكن صعباً جمع ذاك الحشد الكبير المؤيد للرئيس وللنظام. لكن هل إن هذا الحشد لا يؤيد الاصلاح، ولا يريد الحرية، ولا يتوق الى دولة القانون التي تحترم كرامته. بلى يريد كل ذلك، مثله مثل المحتجين الذين أطلق عليهم الرصاص هنا وهناك، والخطأ كل الخطأ في الاعتقاد بأمكان تغيير الطبيعة الانسانية لأي شعب مهما مورست عليه الضغوط أو الرشى.

لم يكن مستغرباً ردّ الفعل الأمني على الاحتجاجات، ولا الأدعاء بأن ثمة مندسين من ارهابيين ومتشددين بين المحتجين، ولا حتى قتل المشيعين لدى عودتهم من دفن قتلى. ما غدا مستغرباً فعلاً هو الفارق الشاسع بين عناوين حزمة الاجراءات والاصلاحات وبين خطاب الرئيس بشار الأسد. فـ"الحزمة" اعطت انطباعاً جيداً في الداخل والخارج بأن النظام تعامل مع الحدث بايجابية سياسية واريحية وطنية. أما الخطاب فصدم الداخل والخارج لأنه ربط كل ما حصل بـ"المؤامرة"، وبديهي ان حديث "المؤامرة" أطاح الاصلاحات وقلل من اهميتها، علماً بأنها ذكرت بشكل عابر. وللدقة والانصاف، لم يتوقع أحد أن يأتي الرئيس الأسد ليقول قررنا إلغاء كذا وكذا، هكذا بكلمات مباشرة ومتهافتة، بل كان متوقعاً ان يتقدم بمبادرة تاريخية الى الشعب السوري. مبادرة تقول لماذا – وكيف – يمكن إلغاء العمل بقانون الطوارئ بعد خمسة عقود على فرضه، ولماذا – وكيف – لم تعد للنظام مصلحة في أن يكون هناك حزب واحد محتكر للسلطة، ولماذا – كيف – تطمح سوريا لأن يكون نهج الاصلاح والحريات دعامة للمواجهة التي تخوضها ضد اسرائيل وليس عائقاً لها… ان الذين توقعوا ذلك وتمنوه هم الذين يحترمون سوريا وشعبها وليسوا معادين أو متآمرين.

للأسف، كانت هناك فرصة لسوريا وشعبها، وحتى النظام، إلا أنه فوّتها. فالعالم العربي في حراك يفترض ان تتفاعل معه كل الانظمة والحكومات، وليس سقوط النظام شرطاً أو فرضاً، أما التفاعل فضرورة ملحة لأن التغيير سيفضي الى مشهد عربي مختلف، وستصبح الفوارق قريباً بمعاير دولة القانون ونزاهة الانتخابات وشفافية الاقتصاد واحترام حقوق الانسان، لا بمعايير سطوة الامن وجلافة الاجهزة وتغوّل الفساد واحتقار الحريات. قد تكون هذه في نظر البعض احلاما او أوهاماً، لكن انتفاضات الشباب جعلت منها استحقاقات ممكنة حتى لو تطلبت وقتاً فالمؤكد انها لن تتحقق بسحر ساحر، لكن من الظلم والمكابرة الاعتقاد بأن هذا الشعب او ذاك لا يستحق حريته وكرامته.

لم يكن المشهد، برمته في مجلس الشعب مطمئناً للسوريين او بمستوى طموحاتهم، والأكيد انه لم يكن مطمئناً للبنانيين. فالرسالة التي تلقوها هي نفسها التي يعرفونها: لا تغيير قريباً في العقلية التي تدير هذا النظام. فالحقيقة الوحيدة التي يدعو الى تصديقها هي "المؤامرة". ومن عناصر هذه "الحقيقة" ما نشره بعض المواقع السورية – اللبنانية على الانترنت عن خطط يديرها "فريق 14 آذار"، وعرب وأميركيون، ضد سوريا. هناك من استحضر "مذكرات الاتهام" الشهيرة وأسقط أسماء "المتهمين" على نصوص استخبارية مكشوفة المصادر، اذ ان الاجزاء التي تفصّل التوزع الطائفي والعرقي في مناطق سوريا ومدنها لا بد ان جهازاً سورياً قد وضعها. هذا نوع من التقليد الفاشل لـ"ويكيليكس".

وهذه الفبركات المسرّبة لا أهمية لها إلا بمقدار ما تنم عن خيال يخترع "المؤامرة" ويصدقها. لكن الأهم ان هناك نظاماً قوياً وجدياً ومع ذلك يلجأ الى أساليب كهذه، بل يضع منها سياسات. المهم ان لا يكون ضرب الفتنة في سوريا بتصديرها الى لبنان. والحكومة المقبلة ستجد نفسها مساقة الى خدمة التشدد السوري سواء بالنسبة الى المحكمة الدولية او السلاح غير الشرعي، خصوصاً أنه بعد كشف "المؤامرة" اكتسبت الأكثرية الجديدة مشروعية مضافة لتطرفها.

السابق
الجيش يحاول فتح تقاطع المشرفية
التالي
الحكومة على خط الزلازل العربية والدولية