في خيارات النظام السوري والانظمة العربية الاخرى

من الجمعة 18 شباط/فبراير، عندما انطلقت أولى التجمعات الاحتجاجية الصغيرة في مدينة دمشق، إلى الجمعة 25 آذار/مارس، عندما أخذت سورية تعيش مناخ ثورة وطنية شاملة وغير مسبوقة، كان السوريون البواسل قد كسروا حاجز الخوف. في المقابل، وبالرغم من تصريحات المسؤولين السوريين، والمتحدثين غير الرسميين الكثر باسم النظام، التي غلفت بعبارات التعاطف مع المطالب الشعبية أحياناً والاتهامات بالتآمر في أحيان أخرى، كانت أدوات النظام الأمنية تصعد من وتيرة
القمع.

لا أحد يعرف على وجه اليقين عدد القتلى والجرحى والمعتقلين خلال الأسابيع القليلة الفاصلة بين التاريخين، ولكن المؤكد أن قتلى يوم الجمعة الماضية كانوا بالعشرات. إن كان ثمة من مؤشر تحمله هذه التطورات، فإن المسؤولين السوريين، عندما تتعلق الأمور بالموقف من مطالب الشعب في التحرر والدولة العادلة، لا يختلفون كثيراً عن رفاقهم العرب الآخرين في تونس ومصر واليمن وليبيا. هذه، في أوجه متعددة، أزمنة يعاد فيها التوكيد من جديد على أننا أمة واحدة، أنظمة وشعوباً. وعلى قادة سورية، التي كانت منطلق الحركة العربية القومية وأصبحت طوال القرن الماضي قلب العروبة، أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يسارعوا إلى التصرف بمقتضاها.

ما قاله المسؤولون السوريون، خلال الأسابيع القليلة من شباط/فبراير إلى آذار/مارس، لأصدقائهم، الذين حاولوا إقناع القيادة السورية باتخاذ إجراءات إصلاح عاجلة وملموسة، أن سورية ليست تونس أو مصر، وأن الشعب السوري في أغلبه يدعم سياسات نظامه ويقدر له موقفه في مواجهة الضغوط الأجنبية والتغول الإسرائيلي. ولكن الواضح أن القيادة السورية، التي حرصت خلال عقد الاضطرابات الكبرى الأول من هذا القرن على التصرف باعتبارها الأقرب لنبض الشارعين العربي والسوري، وأنها الأكثر قدرة على الاستجابة لإشارات هذا الشارع، لا تريد أن ترى حقيقة التيار الهائل للثورة العربية التحررية، لا تريد أن ترى الدلالات التاريخية لهذه الثورة، وما تعنيه لرؤية الشعوب العربية لنفسها وموقعها على المسرح العالمي. سياسات الحكم السورية العربية، بالطبع، لا يمكن مقارنتها بسياسات نظامي الحكم السابقين في تونس ومصر. فمنذ بدأ الهجوم الأمريكي على المنطقة العربية بإعطاء الضوء الأخضر للجيش الإسرائيلي لاستباحة الضفة الغربية، مروراً بغزو العراق، والحربين الإسرائيليتين على لبنان وقطاع غزة، وسورية تقف بصلابة إلى جانب الحق العربي، بالرغم من الضغوط الهائلة التي تعرضت لها دمشق والإغراءات التي لوح بها لها، وبالرغم من الخلل الفادح في موازين القوى. وقد أصبحت سورية بفعل هذه السياسة دولة فاعلة في الشأن الإقليمي، وإحدى أكثر الدول العربية احتراماً.

بيد أن مشكلة الحكم السوري أنه في بنيته وقيمه وسلوكه تجاه شعبه لا يختلف في كثير أو قليل عن أنظمة الحكم العربية الأخرى، سواء تلك التي أطاحتها حركة الثورة العربية أو تلك التي يوشك أن يطاح بها. تسيطر على سورية طبقة حكم صغيرة، من قيادات أمنية وعسكرية، وبيروقراطية حزبية بعثية. وكما العدد الأكبر من الدول العربية، أخذ أبناء الطبقة الحاكمة، منذ بدأ تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي، في السيطرة على ثروات البلاد ومقدراتها المالية والاقتصادية والتجارية. ليس ثمة حدود في سورية البعث بين نظام الحكم وأجهزته الأمنية والمؤسسة القضائية، وتخضع البلاد منذ عقود لقانون طوارىء، يسمح باستباحة حتى الحقوق الأولية للإنسان السوري. وكما في مصر وتونس، شهدت سورية منذ الستينات سيطرة كاملة ومطلقة لنظام الحكم على مؤسسة الدولة، بحيث لم يعد من الممكن التمييز بين ما هو دولة سورية وما هو نظام حكم. وبالرغم من أن أغلب قوى وشخصيات المعارضة السورية يتجنب الإشارات ذات الصبغة الطائفية، فما يعرفه السوريون أن نظام حكم بلادهم يرتكز بالفعل إلى هيمنة أقلية طائفية، وأن هذه الهيمنة تأخذ في بعض مؤسسات الدولة صبغة فجة وصارخة. والمشكلة الأكبر أن هذا النمط السوري للحكم يرتكز في الكثير من جوانبه إلى وثيقة دستورية، تكفل قيادة حزب البعث، الذي لا يحظى باحترام وولاء الأكثرية السورية، للمجتمع والدولة.

جاء الرئيس بشار الأسد إلى الحكم كما هو معروف بوعود إصلاح، استقبلت بقدر كبير من التفاؤل. ولكن ما أن حاول عدد من المثقفين والناشطين السوريين المعارضين اختبار وعود الإصلاح حتى زج بالكثير منهم إلى السجون. وربما كانت حالة الفتاة السورية التي لم تصل إلى العشرين من عمرها، والتي تلقت حكماً بالسجن لعدة سنوات قبل أسابيع لمجرد التعبير عن طموحاتها السياسية على صفحات أحد المواقع الاجتماعية، الأخيرة في سلسلة حالات قمع وسجن وملاحقة لأصحاب الرأي من كافة الدوائر والاتجاهات السياسية. بعض من لوحق واعتقل لفترات طويلة بلا محاكمة، أو حوكم أمام هيئات قضائية عسكرية وأمنية، تجاوز السبعين من عمره؛ ولكنهم جميعاً ليسوا موضع شبهة من حيث الولاء للوطن والحفاظ على سلامته، بالرغم من أن الاتهامات بالتعامل مع جهات أجنبية باتت أسهل وأسرع الاتهامات التي يوجهها النظام إلى معارضيه.

طوال سنوات، بالطبع، ساهمت سياسات الحكم الخارجية ومواقفه القومية العربية في تعزيز شرعيته، وفي توفير غطاء لسياسة وأضاع داخلية مغلقة. وكما غيرهم من أبناء الشعوب العربية، صبر السوريون كثيراً وطويلاً، صبروا خوفاً من الفتنة الداخلية وما يمكن أن يتولد عنها من انقسام أهلي، وصبروا حرصاً على صلابة موقف بلادهم في مواجهة ضغوط الخارج وتهديده، وصبروا أملاً في أن تجد وعود الإصلاح طريقها إلى التنفيذ في النهاية. وكما غيرهم من أبناء الشعوب العربية، فقد نفد صبر السوريين أخيراً، ولم يعد من الممكن إقناعهم بطموحات أقل من طموحات أشقائهم في مصر وتونس والبلاد العربية الأخرى.

في مساء الخميس الماضي، 24 آذار/مارس، تقدم النظام بمبادرة متأخرة للإصلاح. في شقها الاقتصادي والمعاشي، بدت المبادرة، التي طرحت باسم القيادة القطرية لحزب البعث، أقرب إلى الرشوة الجماعية للشعب السوري منها إلى التحرك الجاد للتعامل مع الخلل الاقتصادي الفادح الذي تعيشه البلاد، أو مواجهة مؤسسة الفساد التي تقودها عناصر نافذة في الشريحة الحاكمة. أما في شقها السياسي، والمتعلق بوعود رفع حالة الطوارىء وبدء حوار وطني حول فتح المجال للتعددية الحزبية والإصلاح القضائي، فبالرغم من المسحة الإيجابية الأولية للمبادرة، فالواضح أنها تتجنب التعامل مع جوهر حالة الانغلاق السياسي والاستبداد التي تلف سورية منذ أكثر من نصف قرن. والواضح من تصاعد حركة الاحتجاج في اليوم التالي لطرح مبادرة القيادة القطرية للحزب أن وعود الإصلاح هذه المرة لم تكن مقنعة للسوريين، ليس فقط لأنها ليست المرة الأولى التي تقدم فيها للسوريين مثل هذه الوعود، ولكن أيضاً لأن مادة المبادرة لم تعد كافية لتلبية مطالب السوريين وطموحاتهم

ما تحتاجه سورية أولاً هو حل لمجلس الشعب الهزيل الذي يدعي تمثيل الشعب السوري، ولم يسمع له صوت قط في التعبير عن هذا الشعب ومطالبه. وما تحتاجه سورية ثانياً هو وضع دستور جديد، دستور جديد كلية، جديد في المنطق المؤسس للحقوق والواجبات، وجديد في رؤيته لطبيعة الدولة السورية ونظام الحكم. وما تحتاجه سورية، ثالثاً، هو مناخ من الحريات، يضع حداً قاطعاً لسيطرة النظام الأمني ويسمح بمشاركة السوريين جميعاً في وضع الدستور الجديد لبلادهم وبناء دولتهم على أسس مختلفة. وما تحتاجه سورية رابعاً هو تبني سياسة جادة وطويلة المدى لتفكيك الطابع الطائفي غير المعلن للدولة والحكم. وما تحتاجه سورية قبل ذلك كله أن توضع نهاية لسياسة القمع الدموي التي اتسمت بها طريقة التعامل مع المحتجين السوريين خلال الأسابيع الماضية، وأن يقدم كل مسؤول عن قتل السوريين والإضرار بحياتهم وممتلكاتهم للمحاكمة.
ما يعيشه المجال العربي هو ثورة شاملة، ثورة لن تترك بقعة عربية بدون أن تصلها. طوال عقود، أجهضت النخب الحاكمة الآمال والطموحات التي عبر بها العرب عن نضالهم المرير، من دولة عربية إلى أخرى، للتحرر من السيطرة الأجنبية وهيمنة الإدارات الاستعمارية. واليوم، تنهض الشعوب العربية جميعها لاستعادة ما سرق وأجهض، استعادة الدولة العادلة، الكرامة الإنسانية، الحريات والتداول على السلطة، واستعادة الموقع والدور واحترام العالم. في سورية، كما في دول عربية أخرى لم تصلها بعد رياح الثورة العربية، أو أنها لم تصلها حتى الآن في قوتها العاصفة، ثمة مخرج أقل زلزلة مما شهدته تونس ومصر، وأسرع خطى، وأكثر حفاظاً على مقدرات البلاد واستقرارها. عندما تتوفر عقلانية كافية لتقدير الأمر، ويتوفر الإدراك لحقيقة تيار الثورة العربية وحتمية انتصاره، يصبح من الممكن الاستجابة لمطالب الشعوب بدون الاضطرار لتصاعد وتيرة الصراع بين نظام الحكم والشارع. ولكن فقدان العقلانية والإدراك، واللجوء إلى المناورات السياسة المعتادة، أو الإعلان عن استجابات قاصرة وغير جادة، لا يعني أن من الممكن احتواء تيار الثورة أو تعطيله. ما لا يجب أن يخطىء أحد في قراءته أن الشعوب العربية عقدت العزم على أن تطيح بهذا الخراب مرة وإلى الأبد.

السابق
واشنطن والحظر الجوي على ليبيا
التالي
تلمّس الصفحات الإلكترونية!