النزاع العقاري في لاسا وأخواتها: خلفيّات وتاريخ من المواقف

في بلاد جبيل ثمّة ما يُريب في الموضوع العقاري، وثمة مواقف تبغي الفتنة، من دون أن نجد ما يُبرّرها أو يدعو إليها. تتأسّس المواقف بناءً على الوضع القائم في بلدة لاسا التي تنتهزها الأطراف المستفيدة محطة انطلاق في هجوم سياسي يخدم جدول أعمالها لا سواه،

بالرّغم من أنّ ملكيّة العقارات والأراضي في المنطقة مادة للنزاع والتجاذبات كما في كلّ المناطق غير الممسوحة في لبنان، وطرفاها الأساسيّان الكنيسة وأبناء البلدة. ففي لاسا وغيرها قضايا عقارية مزمنة، هي نتيجة تقاعس السلطات المتعاقبة منذ الاستقلال عن مسح عقارات لبنان.

إقرأ ايضا: تنازل حزب الله للتيار الوطني يدفع باتجاه إثارة ملف لاسا

الدكتور فارس سعيد واحدٌ من المسعّرين لـ “المشكل” في بلاد جبيل، وهو واحدٌ من أبنائها وسياسييها، وقد اختار المضيَّ في تطوير “المشكل”، فتشبثّ بالنزاع العقاري لإذكاء دوره على المسرح السياسي، حتى لو كلّفه ذلك الدخول في نفق مذهبي لا نهاية له إلا الفتنة، ولو تنكّر أيضاً لتراثه العائلي “الدستوري” الذي جمع حوله من المسلمين أكثر مما جمعته “الكتلة الوطنية” في “أيّام العزّ” والانقسام الثنائي في فترة ما قبل الحرب الأهلية، وذلك باعتبار الكتلة الدستورية معبّرة عن الميثاق الوطني والوجه العربي للبنان. ليس الدكتور سعيد وحيداً في ميدانه، بل يعضده عددٌ من المستفيدين سياسياً وعقارياً…من الذين لا يكتفون في معالجة قضايا واقعهم بل يستدعون التاريخ بطريقتهم الأسطورية والانتقائية للتشكيك في انتماء أبناء المنطقة من المسلمين وحيازتهم للملكيّات العقارية في بلاد جبيل وجبل لبنان عامة، حيث الاتّهام يوجّه إلى الشيعة كطارئين في مقابل أسطورة انتماء الجبل إلى مذهب معيّن. بغض النظر عن التحقيق التاريخي والمسؤوليات وسياقات السلطة، وهو ما لا يُعطي النافخين في جمر الفتنة المذهبية أرجحيّة، نحن اليوم في وضع ميدانيّ وقانونيّ محدّد، لا يحسمه إلا القانون؛ والصلح سيّد الأحكام لمن رضي به فارتضى حكماً من أهل هذا وأهل ذاك. لكنّ حكيم قرطبا لم يكد يُصدّق أن تنفتح أبواب الأزمة العقارية في بلدة لاسا الجبيلية حتى يُدلي بدلوه في بئر المساحة والعقارات المتنازع عليها، وهو الناشط على خطّ دعم مطالب الانقسام المذهبي في بلاد جبيل. ولم ينسَ أبناء المنطقة بعد ما قام به من تجييش في خلال الانتخابات النيابية الأخيرة ضد أحد المرشّحين، لا على قاعدة البرنامج ومحدّدات التمثيل والمعايير القانونية، بل على قاعدة رفضه مشاركة الشيعة في قرار جبيل السياسي لصالح إلحاقهم بمرشّح ماورني، مهما كانت درجة تمثيله أو عمقه الوطني، بالرّغم من أنّ الشيعة، خصوصاً الحماديين كانوا في جبل لبنان في مركز القرار السياسي طوال قرون مضت.

فارس سعيد رجل السلام
إذن في سياق حملته “الثورية” لم يوفّر الدكتور سعيد بطريقه ـ خطأً أو عمداً ـ رأس الكنيسة التاريخية في هذا الشرق الكاردينال بشارة الراعي، في الوقت الذي تغافل عن حقائق الواقع العقاري في جبيل حيث يبرز ضعف حجّته، فكأنّما عمله “السياسي” يتطلّب البحث عن بؤر ملتهبة أو لديها القابلية للاشتعال كي يُضرم نارها. والمفارقة أنّ السياسي “العروبي” يرفع لواء النهج “السلمي” على مستوى منطقة الشرق الأوسط، مثله مثل الأستاذ روجيه إدّة رئيس “حزب السلام”، فلا يترك سانحة إلا ويدعو فيها إلى “السلام”، ويحثّ على الحجّ إلى الأرض المباركة في فلسطين “المحتلة”، من دون اكتراث لسيطرة الاحتلال والاستيطان، لأنّ الحكيم قرّر “الهجوم” بحبّ على المحتلّين، وحرم منه أهل ديرته. فما الذي يحمل حكيم قرطبا على مناوأة جيرانه وأصدقائه في لاسا، وكذلك في اليمونة وغيرهما، من دون اعتبار للوحدة الاجتماعية والتاريخية والعلاقات السياسية والعيش الواحد في جبيل ونواحيها منذ قديم الزمان، في الشدّة والرخاء.

فارس سعيد في خضّم سياسة المحاور
وإذ يستغرب كثيرٌ اندفاعة النائب السابق في مواجهة البطريركية المارونية في موضوع عقاري لا صفة شخصية له في الادعاء، ينجلي استغرابه حين يتيقّن من أن الحكيم يرغب في التشكيك في قيادة البطريرك وتمثيله الماروني لصالح مواقع نفوذ داخل الجسم الإكليركي، ثم يطوّر ذلك باتّجاه نزع الغطاء الديني الذي يمثله البطريرك الراعي للعهد، محاولاً تسعير صراع سياسي وربّما أكثر، من خلال ربط النزاع المحليّ طائفياً ما بين الموارنة والشيعة بما تُمثّله الجهتان، ومحاولاً استعداء الكنيسة ضد الشيعة ذوي العلاقة التاريخية بالموارنة، لصالح معادلة مشتهاة، تقوم على اصطفاف الكنيسة ضمن المحور المقابل، المعروفة أهدافه وغاياته، بالرّغم من أن بلاد جبيل ليست بالإمكانيات التي تؤهلّها للدخول في سياسة المحاور. تتّضح غاية القيادي الآذريّ الفعليّة في ثنائه، بمناسبة ومن غير مناسبة، على الكاردينال السابق بطرس صفير ومواقفه المعروفة.

الدكتور سعيد المذهبي ومعادلة الفضل شلق الاقتصادية
يحاول مُريد الراحل سمير فرنجية أن يُنظّر للنزاع العقاري في جبيل وفق القاعدة التي سبقه إلى إثارتها منذ سنوات المهندس الفضل شلق ـ من منطلقه ـ حين أُعلن إلغاء الوكالات الحصرية في ما اعتُبر حينها تغلّب إسلامي سنّيّ في مواجهة مخلّفات المارونية السياسية التي ظفرت بامتيازات الانتداب في وقت سابق. واعتبر الفضل حينها أن الوقت حان لإرساء توازن جديد منبثق من معطيات الطائف والتوازنات الجديدة التي أرساها، ثم كان ما كان من “ثورة” منعت تحقيق المبتغى. واليوم، يُحاول الحكيم سحب معادلة شلق على طرفي النزاع في جبيل، إذ يرى إلى الموارنة كأصحاب “وكالات حصرية” ويأتي أهالي لاسا المختلفون لانتزاع حقوق عقارية نالها الموارنة في ظلّ معادلة قديمة وفي ظروف سياسية واجتماعية وعلميّة محدّدة، أعطتهم أفضليّة قانونية. لذلك يرفع الدكتور سعيد سقف النقاش النظري ليستنفر قطاعاً من الجبليين وأهل الجرد خصوصاً، فيما يبدو السقف الحقيقي سياسياً، وإن أعطاه مستوى نظرياً، فيما إمكانيات جبيل وأفكار مواطنيها لا يبدو أنها تواكب الطرح السعيدي.

تعليق المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان
وقد وجد الدكتور سعيد من توجّه إليه بالرفض لأنّه خرج عن منطق العيش الواحد وحقيقة النزاع القائم، فكان تعليق المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان على مؤتمر الدكتور سعيد ببيان نشره على صفحته الرسمية في موقع “فيسبوك”، بتاريخ 15/09/2018، حيث اعتبر مواقف سعيد “العشوائية وغير المسؤولة”، افتراءات، وأصحابها “يسوّقون الأضاليل والتّلفيقات بهدف تحريك النعرات” ليخلص إلى القول: “لا تلعبوا هذه اللعبة الخبيثة، بل ارحموا الناس إذ يكفيهم تحريضات ومزايدات طائفية ومتاجرات سياسية”، كما دعا إلى “التوافق على تشكيل لجنة من المتخصصين يتمّ تكليفها من قبل البطريركية المارونية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ويُعهد إليها إنهاء هذا الملف، وفق الأطر العملية والقانونية، وإقفال الطريق أمام كلّ من يحاول المتاجرة به وتوظيفه لغايات وأهداف سياسية”.

فهل يكفي الهجوم والهجوم المضادّ لمعالجة الأزمة؟

الموضوع القانوني في عقارات جبيل
من الثابت أنّ الهجومات الإعلامية والأخرى المضادّة لها في النزاعات العقارية لن تُفضي إلى شيء سوى إلى جولات خطابيّة أشبه بحفلات الزجل اللبناني، فيما المطلوب خطوات محدّدة، وفق القانون، للوصول إلى الحقوق، بغضّ النظر عن المتخاصمين وأوضاعهم المعنوية، فكلّ صاحب حقّ يجب أن يحصل عليه من القضاء اللبناني، وفق معيار النزاهة لا الوساطات.

وحين يدعو الدكتور سعيد إلى الاتجاه قضائياً لا يفعل ذلك إحقاقاً للحق، وهو يعلم من دون شكّ ضعف أبناء لاسا وأخواتها في تكييف أوضاع الأراضي قانونياً، لأنها موروثة منذ العهد العثماني وما قبل، ولم يقم أهلها بتحديث مستندات ملكيّاتهم خلال فترة الانتداب والاستقلال، بالإضافة إلى “الهيجانات” والحملات وهجرتهم المتتابعة باتّجاه البقاع والهرمل، ما جعل المستندات والإثباتات والأوضاع القانونية بحاجة إلى دراية عقارية ومدنية عميقة لإثبات الحقوق. فقواعد الملكية وأنواعها ….في القانون العثماني مختلفة بقدرٍ ما عن القانون المدني الفرنسي واللبناني، وكذلك قواعد الإثبات، بالإضافة إلى أن القرويين لم تكن لديهم القدرة العلمية ولا المالية على القيام بمسوحات اختيارية كما فعلت الأبرشيات وسواها من أصحاب النفوذ، وذلك ما يؤدّي بمرور السنوات إلى وضع اليد وتغيير المعالم والملكيّات دون رضى صريح من الوارث والمالك.

إلى ذلك، تدخل المؤسسة الكنسية ساحة القضاء لعدد من الاعتبارات في مقابل قرويين متروكين لأقدارهم حتى الساعة، وواقعين بين المطرقة والسندان، بسبب تموّجات السياسة وتدافع أصحابها، وافتقادهم القيادة المحليّة القادرة على رفع مطالبهم أمام المرجعيات المستأنسة بالأوزان والأحجام ومراكز الضغط والنفوذ.

النزاع العقاري والتمثيل السياسي في جبيل
ما يُفاقم الأزمة في لاسا وجبيل هو انعدام التمثيل السياسي للمسلمين في جبيل، سواء بالاعتبار الوطني أو المذهبي. فالقوى الوطنية خارج الاصطفافات المذهبية لم ترفع مطالب الشريحة التي تعاني التهميش والمصاعب العقارية في جبيل، ولا يبدو أنّها مهتمّة بذلك، بغض النظر عن الأسباب والبواعث، فيما القوى السياسية المذهبية تكتفي بالخطاب دون الأفعال، وإن فعلت فدون فعل الخصم العقاري والقضائي، ما يجعل الطرف الشيعي في التراتيبية الجبيلية هو الحلقة الأضعف. وليست الانتخابات النيابية منّا ببعيدة حين رشّح الثنائي الشيعي شخصاً من خارج المنطقة، كأنّما اعتبر أبناء المنطقة بقضّهم وقضيضهم فاقدي أهلية، ضارباً عرض الحائط بهواجسهم وبحالتهم المعنوية. فلربّما اختار الثنائي تذويب الجبيليين في بنيته التنظيمية وجعلهم تحت رايته السياسية، من دون أيّ خصوصية تاريخية أو اجتماعية، وذلك تطبيقاً للأفكار الحداثوية وبنيته المؤسساتية الشموليّة.

الشرعية التاريخية لشيعة الجبل
ويبدو أنّ الشرعية التاريخية تؤدّي دوراً في مواقف الأطراف الجبيلية، إذ تبدو الأقوال بشأن تاريخ المنطقة ضبابية في كثير من الأحيان لصالح أسطرة الوجود المسيحي على حساب الوجود الإسلامي، فيما لم تظهر رواية وطنية تدمج في ثناياها أبناء المنطقة بغض النظر عن الانتماء المذهبي. فاليوم، كما في السابق، يبرز خطاب الهوية، وتتقدّم الصفوفَ التشكيلاتُ المذهبيةُ التي تجعل التنازع العقاري يأخذ هذه الأبعاد المتطرفة والمثيرة للخوف، جرياً على العادة القديمة باتجاه العصبية الحمادية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ المحاولات الشيعية لتدوين تاريخ جبيل وكسروان وتكوين ذاكرة جمعية لم تصل إلى نتائج معتبرة، خصوصاً أنّ الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الاهتمام بهذا البعد والحقل العلمي ركنوا إلى التاريخ الشفوي في أكثر الأحيان، وهو ما لا يجعل أعمالهم منافسة ولا ترتكز على قواعد صلبة، بل مجرّد دغدغة للمشاعر وإرضاء للذات في خضمّ افتقاد الذاكرة وقلّة المحاولات الجديّة.

إقرأ ايضا: الأوقاف الشيعيّة والطحين المنتظر في جبيل

في ظلّ معطيات الواقع وافتقاد الذاكرة الجماعية والتمثيل السياسي الحديث يبقى أبناء جبيل وكسروان من المسلمين الشيعة أسرى الواقع والتاريخ والمعاناة اليومية لتحصيل حقوقهم وتحقيق استقرارهم وتقدّمهم على طريق التنمية والازدهار.

السابق
إخلاء سبيل النصولي بعد توقيف على خلفية ما كتبه في «الشراع»
التالي
السرطان يجتاح لبنان وأدويته مهددة بالنفاد من وزارة الصحة