رحلة الخروج من الدولة 

حلبا ــ عكار، أيار 2008:
عاصمة القضاء والقرى تستقبل الأبناء الفارّين من بيروت. يسمعون الروايات عن احتلال حزب الله العاصمة. ثم تقرّر ثلّة من الشباب والسياسيين ورجال الدين الانتقام. ترتكب مجزرة بحق القوميين، وتطلق النيران على كل مناصر لقوى 8 آذار. الصمت يلفّ المنطقة، بينما يقوم أنصار قادة «المستقبل» في طرابلس بحرق منازل ومقارّ لقوى من 8 آذار، وطرد بعض السكان.

حلبا ــ عكار، أيار 2012:

عاصمة القضاء والقرى تفشل في منع القوميين من إقامة احتفال تأبيني لضحايا المجزرة. يفشل «المستقبل» في حشد اعتصام يقوده النائب خالد ضاهر. تقع حادثة يُقتل فيها الشيخ الناشط أحمد عبد الواحد ومرافقه، وينتهي النهار على إضراب دون توترات إضافية، لكن أنصار «المستقبل» في بيروت والبقاع يقرّرون الانتقام. مضت ليلة سعدنايل على خير، دون تجدّد مواجهات المحور إيّاه، بينما هجم الحريريون في الطريق الجديدة، بصحبة مقيمين فلسطينيين وسوريين على مقر شاكر البرجاوي، أبرز وجوه قوى 8 آذار في المنطقة. قتلوا اثنين من شبابه وأحرقوا مكتبه وطردوه من المحلّة.

بين المناسبتين، تظهر الدولة ضحية أولى، والجيش اللبناني يظهر معطلاً بلا قدرة على مواجهة الأحداث، بينما تحاول قوى الأمن الداخلي لعب دور الوسيط. أما القيادات السياسية فلديها جدول أعمال مختلف، حيث تتقدم هواجس وأولويات الملف السوري على ما عداه. والمعركة اليوم، هي على من يمسك بالقرار في الشمال. ونتيجة الفصل الأول هي إسقاط هيبة الدولة، ويتم ذلك وفق تعليمات واضحة: الوجود الكثيف للجيش ممنوع، الحواجز العسكرية ممنوعة، مداهمات استخبارات الجيش ممنوعة، التوقيف واعتقال مطلوبين ممنوع أيضاً. أما القضاء فعليه بأخذ رواية «الأهالي» هناك. ومن الحصاد غير المرئي هو إضفاء شرعية شعبية على المعارضة السورية المسلحة، لتصبح المعادلة: الجيش اللبناني خصم غير مرغوب فيه، والمسلحون السوريون حلفاء مرحّب بهم. وهكذا يكون عبور 14 آذار نحو الدولة!

التخلص من هيبة الدولة بات سياسة فريق «المستقبل» ومن يدور في فلكه. في عكار، يجري العمل بصورة حثيثة على إنجاز المهمة. الدعوات الصريحة الى إبعاد وحدات معينة من الجيش، ثم حديث عن أن عناصر من الجيش من قرى عكارية اعتذروا لذويهم لعدم قدرتهم على منع إطلاق النار على الشيخ عبد الواحد، ثم خلق مناخ يترافق مع كلام عن امتعاض «ضباط سنة» من الوضع، ليتبين أن الشرطة العسكرية أبلغت بعض العسكريين حرمة الجدل السياسي بشأن جدوى أو عدم جدوى أوامر القيادة العسكرية، لتكتمل الصورة منتصف ليل الاثنين. عندها جرى تحذير الجيش من أن الدخول إلى الطريق الجديدة بقوّة النار، سيتحول الى معركة قاسية. قررت قيادة الجيش التزام التهدئة، وتم توجيه العسكريين المنتشرين في المنطقة: عليكم انتظار وقف إطلاق النار قبل الدخول إلى الأحياء، ممنوع التصادم مع الأهالي هناك، القيادة لا تريد أن يخرج إلى الإعلام أي نبأ عن إصابة أحد أبناء الطريق الجديدة برصاص الجيش. والنتيجة كانت بأن الجيش أعطى مسلحي «المستقبل» الوقت الذي يحتاجون إليه للإجهاز على أنصار شاكر البرجاوي. ثم ترد الى مسامع جهات بازرة معلومات عن النية بإخلاء سبيل شادي المولوي بكفالة ومنعه من السفر، ثم التوسّع في التحقيق في حادثة عكار، وسط دعوات بعض القيادات الرسمية إلى معاقبة، ولو شكلية، لضباط وجنود، عسى أن يؤدي ذلك إلى تنفيس غضب «الأهالي». على أن النتيجة هنا، هي نفسها بالنسبة إلى العسكريين: إذا كانت نهاية الأمر على شكل عقاب لنا، فلن نلاحق مسلحاً بعد اليوم!
يخرج نواب من تيار «المستقبل» يستعيرون من القاموس السياسي المحلي العبارات نفسها: «الأهالي» عبّروا عن غضبهم وقرّروا طرد شاكر البرجاوي من الطريق الجديدة. سابقاً، تندّر هؤلاء أنفسهم سابقاً بأن «الأهالي» في الجنوب واجهوا قوات الطوارئ الدولية. لكن غضب الأهالي في الجنوب لم يترجم سلاحاً ولا إطلاق نار. اما غضب «الأهالي» عند 14 آذار، فهو لا يترجم إلا كما يحصل في عكار أو في الطريق الجديدة. وهو الغضب هو الذي يتهدّد الجيش الآن في كل لبنان، وبالتالي نصل إلى الخلاصة نفسها: لتسقط الدولة!

في هذه الأثناء، ثمة من ربط لسان قوى 14 آذار، ولا سيما المسيحيين منهم. لا نعرف إذا كان سمير جعجع يريد أن يخبرنا عن طريق العبور الى الدولة. أو أن آل الجميل سوف ينطلقون في رحلة توسيع بيوت الحزب الى الحدود الشمالية مع سوريا. أو حتى فارس سعيد ورفقته، الذين يفترض بهم عقد اجتماع في المقر المحروق لشاكر البرجاوي في الطريق الجديدة. لكن المتقلب على ضفاف 14 آذار، مثل وليد جنبلاط، يرى أن ما يحصل هو نتيجة قرار سوري بتصدير الأزمة إلى لبنان، والله أعلم ما إذا كان البعض سيتهم إيران بالتورط في إطار الدفاع عن برنامجها النووي، وصولاً إلى النكتة التي راجت أمس: سوف يدخل المفاوض الأميركي قاعة الاجتماعات مع الإيرانيين غداً في العراق، وبيده ورقة قوية جداً، إذ إن الحلفاء في بيروت طردوا شاكر البرجاوي من الطريق الجديدة!
سياسة

السابق
أيام صعبة
التالي
سلاح الداخل يجاهر بهويته