صدام والأسد وجهان للإجرام نفسه

نشرت صحيفة عربية رسائل سرية كان تبادلها رئيسا العراق وسوريا الراحلين صدام حسين وحافظ الأسد، في التسعينيات، حول إمكانية تعاون الخصمين اللدودين بعد سنوات من التنافس والعداء. 

مشكلة الرسائل أنها تعزز الخطاب الخشبي لمكافحة الإمبريالية وتشتيت الأضواء عن الإجرام الذي مارسه كل من صدام والأسد بحق شعبيهما، وتسليطه بدلا من ذلك على “التوازنات” الإقليمية، ولعبة الأمم، والخطر الخارجي المزعوم، الذي يسمح بتكميم الأفواه داخليا.

اقرا ايضا: «الولي الفقيه» يُخرج «حزب الله» قبل سقوط الهيكل!

في الرسائل، أنه على إثر فرار صهري صدام، حسين وصدام كامل، إلى الأردن، خاف رئيس العراق الراحل على حكمه، وقرر الانفتاح على الأسد، الذي كان يرى في العراق خلاصا لاقتصاده المتهالك.

لكن الأسد في العام 1995 لم يكن يثق بصدام بسبب انقلاب الأخير على “ميثاق التعاون الوطني” بين البلدين، الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى وحدة بين نظامي البعث، وتاليا العراق وسوريا، في العام 1978.

الصحيفة تبدو غافلة أو متغافلة عن سبب انقلاب صدام، الذي لم يرتبط لا بوحدة عربية ولا بانفصال. في أساس مشكلة صدام مع الأسد أن رئيس العراق، أحمد حسن البكر، استفاق متأخرا بعدما كان نائبه صدام حسين أطبق على كل مقادير حزب البعث والحكم.

للتخلص من صدام، اعتقد البكر أن بإمكانه الاستعانة ببعثيي سوريا والأسد، فتوصل مع السوريين إلى خطة إقامة وحدة يكون البكر رئيسها، والأسد نائبا للرئيس، وهو ما يطيح بصدام من منصبه. ثم أن البكر كان دخل سن التقاعد وصحته متعثرة، وهو ما كان يعني أن رئاسته كانت ستنتقل حتما للأسد بعد وفاته. 

والأرجح أن البكر لم يكن يخال نفسه سيموت يوما حتى يرثه الأسد، بل كل ما كان يسعى إليه هو التخلص من صدام، لكن الأخير استبق الانقلاب عليه بانقلاب على البكر والوحدة مع الأسد. هكذا بدأ العداء العبثي بين بعثي العراق وسوريا، وتاليا بين صدام والأسد. 

في أثناء هذا الصراع، رعى كل من الرئيسين معارضي خصمه، في لبنان وسوريا والعراق، كما بين الفصائل الفلسطينية، وصبّت أجهزة استخبارات كل منهما غضبها على خصومها، فكانت الاغتيالات، وحروب الشوارع، وقتل الأبرياء لمجرد الاشتباه بهم. وساهم وقوف الأسد في صف نظام إيران، في حربه ضد صدام، بتعميق العداء والكراهية بين الرجلين.

أما في التسعينيات، فرأى كل منهما حاجة للآخر: صدام سعى للالتفاف على صهريه وراعيتهما واشنطن، والأسد سعى لتوريث ابنه بشار عن طريق إضعاف رفاق دربه مثل عبدالحليم خدّام، دون أن يضعف نظامه. وراح مندوبا صدام والأسد يلتقيان، وأرسل الأسد سلامه إلى “أبي عدي”، أي صدام، فيما حمّل رئيس العراق الراحل موفديه سلامات إلى “الأخ الرئيس” حافظ الأسد، حسب الصحيفة.

لم يتأخر الأسد في الانفتاح على صدام الجريح والإفادة من نفط العراق، وكذلك فعلت إيران التي زار وزير خارجيتها، كمال خرازي، برفقة ديبلوماسي صاعد اسمه جواد ظريف، صدام في بغداد، وأعلن الوفد الايراني معارضته الحرب الأميركية التي كانت مصصمة للإطاحة بطاغية العراق ونظامه.

وفي بيروت، وقف رجل طهران زعيم حزب الله، حسن نصرالله، يدعو المعارضة العراقية إلى التوصل إلى “طائف عراقي”، أي مصالحة، مع صدام، بعد عقود من دعاء إيران و”حزب الله” والتضرع لله أن “ينصر الإسلام على الطاغية صدام”. 

السياسة في دنيا العرب والفرس لا دين لها. هكذا وقف نظاما إيران وسوريا إلى جانب صدام إبان الغزو الأميركي للعراق، بل سارعت دمشق وطهران إلى رعاية الإرهابيين الإسلاميين ومفخخاتهم، التي راحت تنفجر في عموم العراق وتقتل ناسه، حتى أن حليف ايران، رئيس حكومة العراق السابق نوري المالكي، انتفض على رعاية الأسد للإرهاب ودفع الأمم المتحدة إلى إرسال لجنة تحقيق دولية لوقف المفخخات التي كانت تعبر الحدود العراقية آتية من سوريا الأسد. 

ثم كانت الثورة السورية للإطاحة بنظام بشار حافظ الأسد. هذه المرة، انقسم التكتل الايراني البعثي، بجناحيه السوري والعراقي، إلى اثنين: إسلام شيعي في صفوفه نظاما إيران والأسد، وإسلام سني قوامه الصداميون ممن أطلقوا لحاهم وشعورهم وكحّلوا عيونهم فصار اسمهم “الدولة الاسلامية”، أو داعش. 

أميركا انهمكت بالقضاء على داعش، وقاطعت الأسد بعد ارتكابه المجازر بالأسلحة الكيماوية، حسب التقارير التي أصدرتها “منظمة مكافحة انتشار الأسلحة الكيماوية”، التابعة للأمم المتحدة. 

الانقسام السني الشيعي استبدل الانقسام السابق بين البعثَين العراقي والسوري، فصادق المالكي الأسد، بل رفض طلبا أميركيا لاعتراض الطائرات المدنية التي نقلت السلاح الايراني  لقوات النظام السوري. ومع وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة في العراق، نسي أو تناسى أنه كان عمل على أرشفة وتوثيق مجازر البعث العراقي الكيماوية، وانخرط الكاظمي في مجهود دبلوماسي لإنهاء عزلة البعث السوري، على الرغم من مجازر الأسد الكيماوية. هكذا هي السياسة العربية والإيرانية، لا دين لها.

على أن أكثر ما يثير الشفقة هو أن مناصري أنظمة ايران وسوريا والعراق لا يرون المواقف المتقلبة لزعمائهم، فيخالون الصراع وجوديا ثابتا بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة. في هذه الحالة، يصبح صدام “أسد السنة”، الذي حارب شيعة إيران والأسد، ويصبح الأسد، العلوي المحسوب على الشيعة، قاهر الإسلام السياسي السني المتطرف.

لكن الحقيقة هي أن “أسد السنة”، أي صدام، والأسد في سوريا، أي بشار وأبيه الراحل، ليسوا أبطالا ولا حماة مذاهبهم، بل هم طغاة دمويون قتل كل منهم من ناسه وأهله وأبناء مذهبه أكثر ما قتل منهم الغرباء بكثير. 

أما من يدرك أن “أسد السنة” العراقي والأسد السوري هما وجهان لعملة واحدة من الإجرام، وأن لا صدام يمثل السنة ولا الأسد يمثل الشيعة أو العلويين، فهؤلاء هم أصحاب البصيرة، وهم، على قلّة عددهم، الفرقة الناجية.

السابق
الدولار يحلّق بلا سقف.. كم سجّل اليوم في السوق السوداء؟
التالي
دياب يستدعي السفراء ويبكي على الأطلال: انقذوا لبنان قبل فوات الأوان!