سلاح المفتي..والرئيس

لا أحد يجهل في لبنان ان مسلميه يرفضون الزواج المدني، ويرفضون إصدار تشريع مدني للأحوال الشخصية. وتسبَّب الرفض قبل حروب الـ1975 بإفشال مطالبات سياسية وقانونية بإصدار تشريع كهذا. وبعد انتهاء الحروب عسكرياً افشل الرفض نفسه محاولة ثانية رغم اقرارها في مجلس الوزراء وبالتصويت. علماً ان أجواء ما قبل الحرب لم تكن بالتشنج والانقسام الذي يعيشه اللبنانيون اليوم. وعلماً ايضاً ان اجواء ما بعد انتهاء الحروب وفي ظل الوصاية السورية الاسدية على الوضع اللبناني كانت تسمح ربما بإصدار القانون المدني المذكور. واليوم يبدو ان الرفض اياه أفشل وللمرة الثالثة محاولة لاصداره رغم اختلافها عن المحاولتين الاولى والثانية وخصوصاً من حيث الإعداد الجدي لها.
ما هي أسباب الفشل المتكرر لإصدار تشريع مدني للاحوال الشخصية في لبنان؟ وما هي اسباب المحاولة الاخيرة لإصداره، علماً ان الظروف السائدة في البلاد لا تشجع على ذلك؟
السبب الاساسي معروف من زمان. وقد عبّر عنه مرة رئيس حكومة راحل بقوله إن القرآن الكريم ضد الزواج المدني. والحقيقة ان المسلمين، بحسب مراجع كبيرة لهم، يعارضون الزواج المدني لأسباب عدة منها تشريع زواج المسلمة من غير مسلم. وهذا امر تؤكد المراجع انه غير مسموح به في الاسلام. علماً انه مسموح للمسلمين بالزواج من بنات "اهل الكتاب". طبعاً لن أخوض هنا في مواقف لاهوتية وفقهية من هذا الموضوع لأنني لست اختصاصياً فيه، علماً انني لست محايداً حياله نظراً الى ان زواجي قبل اكثر من 42 عاماً كان مدنياً وقد عقد في اسطنبول. لكنني سأحاول معرفة الاسباب الفعلية لإثارته في وقت غير ملائم على الاطلاق. والمدقق في الاوضاع السائدة في لبنان يلاحظ ان الصراع بين "تيار المستقبل" السنّي بغالبيته ومفتي الجمهورية الدكتور محمد رشيد قباني (السنّي) طاح كل الحدود. فـ"التيار" لم يتردد في استعمال كل الأسلحة للانتصار على المفتي بغية ازاحته، لأسباب لا مصلحة للخوض فيها علانية. والمفتي لم يُقصّر في اثناء رده على استهداف "المستقبل" له. وقد لاحظ اللبنانيون وخصوصاً المسلمون أنه اتخذ اخيراً مواقف بدت جزءاً من الحرب التي يخوض دفاعاً عن نفسه. أولها، اقدامه على الهجوم علانية على النظام السوري في معرض دعوته لإغاثة النازحين الى لبنان بسبب قمعه لشعبه. وقد يكون هدفه إحباط "الشائعات" التي تروّج عن علاقة له بهذا النظام لتحريض السنّة عليه. وثانيها، تنديده رسمياً وعلانية بسيطرة تيار واحد واحياناً تيارين على كل طائفة ومذهب في البلاد لأنها تفرض ديكتاتورية داخل كل منها. و"تيار المستقبل" واحد منها عند السنّة، و"حزب الله" و"امل" اثنان عند الشيعة. اما ثالثها، فهو قيادة الحرب على الزواج المدني علانية وإصداره فتوى تكفِّر كل مسلم يقبله او يسهّل إصدار تشريع له وتهدِّد بعواقب محددة.
لكن التدقيق في الاوضاع اللبنانية ايضاً يشير الى ان مفتي الجمهورية ما كان ليتصدى للزواج المدني بالطريقة التي اعتمد لو لم يبادر رئيس الجمهورية ميشال سليمان الى تبنيه، والى تعهُّد ايصاله الى "بر" البرلمان، فـ"الجريدة الرسمية". وربما كان يجدر بالرئيس الذي نحترم ان يقوّم أوضاع البلاد لمعرفة إذا كانت تسمح بالسير في "المدني" وبخوض حربه. والتقويم الموضوعي لها يشير الى انها غير ملائمة. فالاقتتال المذهبي عند المسلمين جراء صدفة او قرار… وشبح الاقتتال بين السنّة أنفسهم الذي سعى اليه مستفيدون منه تلافياً للفتنة المذهبية لا يزال موجوداً رغم تضاؤل حظوظه. أما الفتنة المسيحية – المسلمة فيبدو ان هناك من ينفخ في جمرها ليتحول ناراً شاعلة، ربما ايضاً تلافياً لفتنة مذهبية عند المسلمين. فهل خانه التقويم الموضوعي؟ أم ورّطه متزلفون ومستشارون؟ أم انه قرر ومنذ اندلاع الثورة في سوريا التحوّل زعيماً شعبياً وتحديداً مسيحياً أو وسطياً قادراً على إحداث فرق مهم في الرئاسة إذا مُدِّدت ولايته، أو بعد خروجه منها من خلال الانتخابات النيابية؟ ثم ألا يدري الرئيس سليمان ورافعو لواء المدني اليوم انهم بذلك يقضون ربما على النافذة التي "فشّ" فيها "المدنيون" خلقهم من زمان وهي الزواج مدنياً خارج لبنان لأنه يسجّل فيه قانوناً. اما "المدنيون" فعليهم أن لا ينغشّوا باعتبارهم الطائفة رقم 19، لأنهم سيصبحون مثل الطوائف الأقلية في لبنان، اي منقوصي الحقوق.

السابق
هاكر يخترق حسابات صحافيي تايمز
التالي
لا لقاء بين جنبلاط ونصرالله