كنا هنا.. منذ خمسين عاماً!

يوصلني سائق “السرفيس” إلى وسط البلد. يثرْثر عن “الحالة” وعن “الشباب”. هو لا ينزل الى تظاهراتهم، ولكنه “أرسل” إبنه. نصل إلى نزْلة سليم سلام، تعلو الزحمة درجة. يخاف، يرجو أن لا تكون هناك تظاهرة في البلد، “وإلا علِقنا”.

أكاد أصرخ بأن نعم، أنا ذاهبة للتظاهرة، ولكنني أمتنع… تتزايد الزحمة، لا أريد ان أورط هذا الرجل بالإستمرار. أطلب منه ان ينزلني عند الباشورة، وأمضي مشياً على الأقدام.

ألاحظ آخرين قادمين أيضاً. مجموعات صغيرة حاملة العلم اللبناني، تغني و تهتف. و”أفراد” مثلي، ليسوا أصغر مني، يوقفون سيارتهم في “الباركنغ”، ويتجون نحو ساحة الشهداء. هناك، تبدو “التظاهرة” صغيرة، مبعثرة. ربما بكّرتُ بالمجيء.

“أخترق” الكتلة المتراصة الواقفة بوجه “البلوكات” الإسمنتية ورجال مكافحة الشغب. الشباب هنا متأهبون، يهتفون بجوارحهم، يغنون، يصرخون، كأن انبساط المدى أمامهم يلهمهم. لا أستطيع المكوث طويلا داخل هذه الكتلة المتراصة، الأصوات عالية والهواء ثقيل. على كل حال، ألاحظ أنني وسط غالبية شبابية ساحقة، عاصفة، وأقول لنفسي بأنني خارج مكاني.

أخرج من الكتلة، وأنظر حولي، فأجد رفاقي الذين من عمري وقد اختاروا الوقفة إياها: حتى لو كانوا ما زالوا منضوين في الكتلة الصغيرة التي تمثّل حزبهم الآفل، تجدهم موزعين على أطراف التظاهرة، واقفين يتأملون، يلاحظون، يحلمون ربما، يلتقون أقرانهم بعد سنوات فيؤهّلون ويسّهلون… أقف معهم، ثم إنتقل إلى الرصيف المقابل، لأعود إليهم، هكذا في حركة مستمرة، كأنني، هنا أيضاً، خارج مكاني. وأنا على هذه الحال من الترحال بين رصيف وآخر، بين سلام وآخر، أشعر بضغط على كتفي، أستدير فأجد كمال، شيوعي سابق، أو باقٍ ربما، معروف بخفة ظلّه وبتعمّقه في الرياضيات. يقترب مني كمال، ويهمس في أذني: “كنا هنا… في ساحة البرج… منذ خمسين عاماً!”. نضحك من هول السنوات، “عشرات السنوات…! ها ها ها!”.

أعود إلى “الخمسين عاما” هذه، وأحسب: أول تظاهرة شاركتُ فيها، كانت في العام 1968، حساب كمال صحيح، بيننا وبين هذا العام سبعة وأربعون عاما، أي ما يقارب الخمسين عاماً. نحن منذ نصف قرن، كنا هنا، في ساحة البرج، نثور، نتظاهر، نركض، نصرخ، نهرب، نتصبَّب عرقا، نختبىء في مداخل العمارات… ونتمتع، نحن أيضاً، بالجمال والحماسة والحيوية والإندفاع والسعادة وروح التضحية العالية.

بيروت، منذ خمسين عاماً، كانت مدينة فسيحة، عمارتها قليلة؛ وعندما كنا نتظاهر، كنا نمشي فيها طويلاً… نمشي كثيراً، أحيانا من البربير، أو من الاونيسكو، وحتى وسط البلد. التظاهرة كانت تعني المشي، لا الإعتصام. هذا الأخير، الإعتصام، كانت له مناسباته، القليلة على كل حال. كنا نتظاهر من دون أن نتسبّب بزحمة سير خانقة، مع أننا كنا نقطع مسافات طويلة. كنا نقول، لنرفع من شأن تظاهراتنا، ان هذه الأخيرة تغطي، مثلا، البربير وصولاً إلى البسطة الفوقا. أعدادنا كانت كثيفة، وتظاهراتنا مؤطَّرة ضمن “بلوكات” محدّدة للأحزاب المشاركة، أحزاب لبنانية وفلسطينية وأعلام وقادة. العلم اللبناني… لم يكن في بال أحد أن يرفعه؛ كان من اختصاص الأحزاب اليمينية، المتمسكة بكيان لبناني يضيق بنا، نحن محبو المساحات العربية الشاسعة. اللافتة نحملها إشارة إلى انتمائنا الحزبي، الذي يتنوع، ولكنه يتوحد حول الشعار الأكبر؛ ولكل “بلوك” من التظاهرة هتّافه، يُرفع على الأكتاف، حاملا مكبّر الصوت، وصارخاً؛ نردد صرخته، بشيء من النظام، يدلّ على أن لا تظاهرة للحركة الوطنية اللبنانية من دون اتفاق قياداتها على خطوطها الكبرى ومسارها وتنظيمها ولجانها الخ.

أهلنا كانوا غائبين تماماً عن تظاهراتنا، كذلك الكهول الذين يجايلونهم. وإذا صادف أن اكتشفوا وجودنا بين المتظاهرين، كانوا ينهروننا كالأطفال، ونحن نحرد بصمت، نخجل أمام رفاقنا. أُنظر اليوم الى تظاهرات الحِراك المدني وقارن: تجد فيها عائلات، آباء شباب مع صغارهم، يجرّونهم بالعربة، وقد يكون أهلهم من بين المشاركين. والتوزيع شبه الصارم للأمكنة: الشباب في مواجهة الأمن، العائلات مع أولادها بعيداً، في أقرب ما يمكن إلى الأمان، والشيوخ على الرصيف، كلهم واقفون، معتصمون وهم واقفون، يتحركون قليلاً، أو يتوارون عندما تحتدم المواجهة مع قوات مكافحة الشغب.

عن سرّ الجاذبية السلبية للشباب تجاه قوات الأمن، لا أتساءل كثيرا؛ أتذكر فقط كيف كنا، نحن، نرحّب بالصدام معهم، نعامله مثل معركة، نعرّض أنفسنا للضرب والقنابل المسيلة للدموع، نضرب أحيانا رجال الأمن، بأيادينا، لا نخشى شيئا فيهم. وعندما ندخل السجن بعد تظاهرة “لم تمرّ على خير”، نقوى، ونصمم على المزيد.

وكيف كان يمكن أن يكون غير ذلك، عندما كنا نصرخ في تظاهراتنا لحرب التحرير الشعبية، وللثورة العمالية؟ لتغيير نظامنا الإقتصادي الكومبرادوري الإحتكاري الرأسمالي؟ لإقامة مجالس السوفياتات التي اخترعها البلاشفة؟ لتحرير كامل فلسطين بحرب التحرير الشعبية، بعدما هُزمت الجيوش العربية النظامية في حرب 1967 مع اسرائيل؟ لرفض الحلول السلمية الإنهزامية التي يوافقون عليها؟ للإستهتار بالكيان اللبناني، والضغط من أجل توقيع إتفاق يسمح للفلسطينيين بحمل السلاح ومحاربة إسرائيل إنطلاقاً من حدودنا الجنوبية…؟

السابق
ثلاث سنوات على اغتيال الحسن… صامدون بوجه ‘الولي الفقيه’
التالي
الطرابلسيون على خطى إخوانهم السوريين؟!